فاطمة ناعوت
«الجحيمُ هو الآخر» عبارةٌ شهيرة اقترنت بالكاتب الفرنسى الشهير «جان بول سارتر»، وردت فى مقطع من إحدى مسرحياته: «لا مخرَج» No Exit. يقول المقطعُ: «الآخرُ جحيمٌ حين يتكبّر ويتجبّر، ويُنصِّبُ نفسَه ديّانًا عليك. فيفتّش فى نواياك جاعلًا منكَ خطّاءً ذميمًا، زاعمًا أن اللهَ قد منحه توكيلًا مباشرًا يُعذّب بموجبِه الناسَ فى الأرض، عِوضًا عن حساب السماء».. لكن سياق المسرحية لم يحتمل أن يقدّم الآخر «الآخرَ». فالآخرُ ليس دائمًا جحيمًا بل كثيرًا ما يكونُ فردوسًا ونعيمًا ورغدًا. الآخر جحيمٌ إن اغتالك معنويًّا، وفردوسٌ إن كان صخرةً لك وسندًا. الآخرُ الفردوسُ أراه جليًّا فى شهر سبتمبر من كل عام، حيث عيد ميلادى، إذْ تنهمرُ شلالاتُ الحبِّ من كل صوبٍ، فأغرق فى نعيم المودة ورغد الفرح. الآخرُ الفردوس هو المحبُّ العطوف الذى يمد لك يدًا حانية تشدّ من أزرك، ويستوعب لحظات انكسارك، فيقوّيك لئلا تنكسر، ويجعل من نفسه صخرةً تتكئ عليها إذا ما هدَّك التعب. آنذاك، تتحوّرُ العبارةُ الشهيرةُ المخيفةُ لتغدو: «الفردوسُ هو الآخر»، حين يؤمنُ ذلك الآخرُ أنه إنسانٌ مثلك، يساندك فى ضعفك وينتظرُ أن تسانده فى ضعفه. فجميعُنا، نحن البشر، ضعافٌ أمام تصاريف الزمان، ننتظرُ يدَ الله الرحيمة لتسندنا، فتتجلّى يدُ الله فى صورة البشر الطيبين: الآخرُ الفردوس.
«الآخرُ الفردوسُ» لا يتجلّى فقط فى لحظات الفرح كأعياد الميلاد حين يفاجئك الأهلُ والأصدقاء بحفلات مباغتة تغمرك بالفرح، بل كذلك فى لحظات الشدّة والانكسار. يغمرنى الفردوسُ فى صورة «آخرين» يتحلقون حولى فى محنتى مع القضايا الكيدية التى يرفعها بشرٌ يستعذبون عذابَ الآخرين.
«الآخرون الفردوس» يمحون بأياديهم الطيبة ركاكة «الجحيم» الذى يتسلّل إلى حياتنا فى صورة «آخرين» ينذرون حياتهم لتكدير حياتنا. فردوسٌ أنيقٌ، كلُّ من يرفع يدَه للسماء يدعو اللهَ لى فى محنة ألمت بى. فردوسٌ واعٍ، هم أصدقائى الأدباء والفنانون الذين قاتلوا لحماية مشاعل التنوير التى يحاول الظلاميون إطفاءها بكل إصرار ودأب. فردوسًا ذكيًّا كان القراءُ المثقفون الذين يدافعون عن صخور القوى الناعمة التى يجاهد أعداءُ مصر من أجل تفتيتها. فردوسٌ طيّبٌ هم الرائعون الذين أقابلهم فى طرقات بلادى وفى أسفارى فى بلاد الله، يهونون علىَّ الظلم، ويجعلون من قلوبهم الغنيّة أوطانًا دافئة تحتوينى. فردوسٌ مثقفٌ كلُّ قلم نبيل فى يد كاتب محترف أو هاوٍ يكتب ليُذّكر الناسَ بما فعلنا جميعًا من أجل الوطن. فردوسٌ مزهرٌ، كلُّ ريشة فى يد فنان تشكيلى أو فى يد طفل نحتت ملامح وجهى على الصحاف البيضاء. فردوسًا مرحًا كان كلُّ كاريكاتور صوّر لمحةً من قضيتى الشهيرة بريشته الساخرة. فردوسٌ مقيمٌ هو أسرتى الجميلة المثقفة التى تدعمنى فى جميع أيام حياتى وفى لحظات العسر التى تمرُّ علينا كما الدهر. فردوسًا كان كل محام يُسخّر علمَه وخبرته ووقته ليكتب مذكرات تدفع عنّا أباطيل يلصقها بنا حاقدٌ مُزايدٌ يُكمل نواقصَه من امتلائنا، ويعزّز فقرَه من غنانا، فما زاد إلا نقصًا وما نزدادُ إلا امتلاءً وثراءً. وفردوسًا كان، على غير ما أراد، كلُّ من يجهد لتكدير صفو حياتنا؛ لأنه يكون السبب فى عثورنا على فراديس الآخرين التى تتجلّى فى صورة أصدقاء جدد يساندوننا ويدعمون قلوبنا لئلا تنكسر. فحتى الأشرارُ قد يكونون فراديسَ على غير رغبتهم حين يقصدون بنا شرًّا وحزنًا، فيأتى اللهُ بعدله ورحمته ويستبدلُ بالحزن فرحًا كثيرًا، وبالشرّ خيرًا وفيرًا من ثروات إنسانية هائلة ما كنا نكتسبها ولو عشنا ألفَ عام. وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم.
سأُغنى يا حبيبى، رغمَ النِّصالِ تتحلّقُ حولَ جسدى من كلِّ صوب، مثل ذبحٍ بائسٍ لا يقدرُ أن يقولَ: أحسِنوا الذَّبحَ يا جماعةَ الخير؛ فأنتم تجعلونَ السماءَ تبكى!. يُشهرون رماحَهم أمامَ عينى حتى أخافْ، ويتلعثم النغمُ فوق أوتارِ قيثارتى فأصمِتُ عن العزفِ، ولا أغنى. لكنهم ينسونَ أنَّ مالكَ الحزين لا يصدحُ بالنغمِ أجملِه؛ إلا والدمُ يقطرُ من بين ريشِه حارقًا، وأن الأوتارَ لا ترجِفُ بالموسيقى، إلا والعنقُ المذبوحُ ينزفُ القَطْرَ أحمرَ قانيًا من فرطِ الوجع، وأن البجعةَ لا تُجيدُ الرقصَ كالغيدِ على صفحةِ الماء؛ إلا حيَن تحين ساعةُ رحيلِها عن الدنيا أو عن الوطنْ. إن مزّقوا دفترَ أشعارِى وأطبقوا شفتىّ ليصمتَ صوتى عن الغناءْ سأُغنّى بقلبى حتى تطيرَ الفراشاتُ من حولى وتحطَّ فوق كتفى بلادى. سأغنّى لضفائرها، حتى تتواثبَ خُصلاتُ شعرِها فوق موجِ النسيم، فيأتى الربيعُ قبلَ موعدِه. سأغنّى لعينيها حتى تُشرق للنورِ من جديد، ثم تغفوَ على وهادِ جواباتى وقراراتى
نقلا عن المصري اليوم