محمود العلايلى
تعمدت عندما كتبت فى الموضوع المأسوى للطفل شنودة وأبويه بالتبنى ألا أتطرق لأى مناحى قانونية أو أى قواعد دستورية، وإنما إرتكزت على الضمير الإنسانى للمواطنين العاديين مثلنا وإنسانية من يطبق القانون ومن ينفذه، على أمل أن يتيح الوقت للضمير الحى أى فرصة لإرجاع الطفل المنتزع من أحضان والديه المكلومين.
ولكن مع مرور الأيام والأسابيع وعدم ظهور أى لمحة نور فى نهاية النفق، وجدتنى مدفوع لأتحدث فى أصل المشكلة، ومع أنى أتفق مع الذين كتبوا أن معضلة شنودة ليست هى المشكلة فى ذاتها ولكنها عرض لعدة أسباب مجتمعة، حاول بعض الكتاب تحديدها بأنها مرجعية الشريعة الإسلامية التى يعتمد عليها المشرع إستنادا على المادة الثانية من الدستور المصرى منذ دستور 1923 لتصل إلى صيغتها النهائية بإضافة الألف واللام لكلمة مصدر ليصبح نص المادة"الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"، والحقيقة أن كلمة مصدر ب"الألف واللام" أو بدونها لم ولن تغير فى الأمر شئ لأنى أرى المعضلة فى شأن مختلف وإن كان ليس بعيدا كل البعد.
إن الإعتداد بالمادة الثانية من الدستور ليس بالضرورة مؤشرا للحكم على التشريعات الصادرة من الدولة، لأن الأهم من مواد الدستور هو المناخ السياسى الذى تصدر فيه التشريعات وتطبق، وما أقصده بالتحديد من المناخ السياسى هو التطبيق الملزم للديمقراطية بكل معانيها، لأن الديمقراطية لا تعنى فقط حكم الأغلبية أو التشريع بحكم أصوات الأغلبية، ولكن من أهم تعريفات الديمقراطية هى"إحترام حقوق الأقليات وحمايتها"لأنه ليس من المنطقى أن تطغى طائفة من المجتمع على أخرى لأنها أكثر عددا، وعندما نطبق هذا على موضوعنا فيجب أن نفهم أننى لا أقصد هنا أن المسيحيين أقلية بالمعنى الحقوقى، لأن عدد المسيحيين المصريين يقارب العشرين مليونا وهو ما يعادل دولتى تونس واليونان مجتمعين، ولكنهم أقل عددا بالمعنى السياسى، لأن نسبة 49% من العدد تعتبر فى العرف السياسى أقلية أمام ال51% الآخرين، وحتى لا نضع كل معضلاتنا ومنهم معضلة شنودة على كاهل المادة الثانية، فإن عدد من الدول الديمقراطية الغربية مازال مذكور فيها دين الغالبية من السكان أو الدين التاريخى للدولة، فعلى سبيل المثال دولة مثل الدنمارك تحدد فى دستورها دينها بالمسيحية الإنجيلية اللوثرية، وينص الدستور النرويجى فى مادته الثانية "أن قيمنا ممثلة فى تراثنا المسيحى والإنسانى"، ويشترط دستور الدولتين أن يكون دين الملك مسيحى إنجيلى لوثرى، بينما يذكر الدستور الإيطالى الكنيسة الكاثوليكية فإنه يفصلها عن الدولة ككيانان مستقلان، ويعطى الحرية لكل الطوائف الأخرى على ألا يتناقض أى تصرف مع القانون الوضعى للدولة، ومما سبق على سبيل الأمثلة فلم يؤثر ذكر الدين فى الدستور على تشريعات الدولة القانونية، وبالتالى لم يتأثر بالسلب أى مواطن يدين بدين مختلف أو لا يدين بأى دين على الإطلاق، لأن المبادئ الديمقراطية الحاكمة تقوم على المساواه بين المواطنين كأساس للحكم، وحماية مصالح الأقليات-السياسية-كمبدأ كما سبق وذكرت.
إن الإصرار على إحالة إشكالياتنا القانونية المتعلقة بالإختلافات الدينية على المادة الثانية والإصرار على محاولات تغييرها فى رأيى حرث فى البحر، كما أنه من الخلل إختصار معضلة شنودة على أنها شأن مسيحى مع أنها شأن يخص مصريين كثيرين وإن كانوا أقل عددا من الأغلبية، ولهم مطالبات فى مواضيع مثل التبنى والطلاق والحضانة والميراث، وبالتالى فإن المجدى فعلا فى هذا الشأن وغيره هو الدفع بالصيغ الديمقراطية الفعلية فى نظام الحكم، لأن ذلك هو الضامن الفعلى لكل أصحاب المطالب فى الدولة على كافة المستويات وفى مختلف الشئون سواء كانوا أغلبية عددية أو أقلية سياسية، وإنما الجميع فى النهاية مواطنين مصريين يطالبون بما لهم من الحقوق طالما يؤدون ما عليهم من الواجبات.