المهندس باسل قس نصر الله
إنه نص مقابلتي مع الكاتب المصري ماجدي البسيوني والتي نشرها في كتابه "القلعة - حلب من الحصار للإنتصار" والذي تم نشره في مصر في أيلول 2017.
 
في سورية فقط .... مستشار مسيحي لمفتي مسلم 
لا تجد في أي دولة من البلدان الإسلامية شرقا وغربا مستشارا مسيحيا لمفتي أي ديار من الدور سوي في سورية تحديدا.. "المهندس باسل قس نصر الله" علم داخل سورية وخارجها
 
في 21/9/2016 أرسل إلي ابنته "مي" التي لم يزد عمرها عن الثمانية والعشرين ربيعاً، والمسافرة خارج الوطن ختمها بهذه الكلمات :
 .... أنا لا أستطيع أن أجبرك على العودة في هذه الظروف، لكني أحب أن أترك لك شيئاً من فكري .. مهما جار الزمن علينا فلا يجب أن ننسى سورية 
كوني سوريةً بأخلاقك وعملك وعزة نفسك يا ابنتي ...
لكنه بدأ الرسالة يذكرها بأيام السعادة الأسرية ، يقول: 
عزيزتي مي …
إنها المرة الأولى – على ما أذكر – التي أكتب لك فيها، فأنا لم أعتد أن أراكِ سوى تلك الطفلة ذات الأربع سنوات التي كانت تبكي بمجرد أن يحاول أي شخص – سوى أمك – أن يتكلم معها .
كنت أحب أن أطلق عليكِ أسماء عدة وأحبها اليَّ “أرشانة”، لأنني كنت أرى فيك على رغم صغرك آنذاك، إمرأة قوية وذكية لا تقبل بالحلول الوسطى ولا تقنع بالإجابات دون أن تفهمها.
 
ثم ينقل لها الواقع كما يعيشه واحد من أهل حلب الذين يعانون الحصار فيقول:
أكتب لك والظروف قد أجبرتنا على أن نفترق، وأعلم تماماً مدى الصعوبة التي تعانيها، في العيش والعمل وحدكِ دون أن تشعري بعائلتك جانبك..أعرف تماماً الضغوط الكثيرة التي حملتيها خلال الفترة الممتدة من بداية الأزمة بحلب حتى سفرك قبل أشهر، وأعرف كم اعتمدنا على وجودكِ خلال الأيام الصعبة التي مرت بها حلب، فكانت بسمتك وحتى تقطيب حاجبيكِ ومن حيث لا تدرين، تعطيني ارتياحاً كبيراً.
وينقل لها المعاناة مع بعض كلمات المداعبة الأبوية فيقول :
منذ سفرك لم يتغير شيء، فالكهرباء التي كانت تُقطع عدة ساعات فقط، أصبحت تأتي سويعات فقط..وتمت إضافة الماء على قائمة الانقطاع ولكن بشكل أفضل من الكهرباء، فهي لا تنقطع بالساعات بل بالأيام، ومع هذه الانقطاعات ما زالوا يُتحفوننا بصور بعض المسؤولين “لابسين ومتأستكين على سنكة عشرة” وهم يوزعون قناني الماء، مع ابتسامات تشع من وجوههم أين منها ابتسامات “توم وجيري”.
 
أصبحت أرى الكبار والصغار يمارسون رياضة حمل بيدونات الماء، كما أن العمل في بيع الماء – وهي من الأشغال التي لا يلزمها ترخيص – فكل واحد أصبح يضع سوزوكي محملاً بخزان ماء ويبيعه، وتذكرت منذ أكثر من أربعين عاماَ عندما كنا نشتري ماء الشرب في اللاذقية لأن المياه الواصلة إلى المنازل كانت مالحة ولم تصل مياه نبع السن لها.
 
ومن الممكن أن يمنحوا بعض أولئك المسؤولين الجهابذة، جائزة نوبل للفيزياء لأنهم استطاعوا إعادة الزمن إلى الخلف لأكثر من أربعين سنةً ومن الممكن مع تقدم وتطور الانقطاعات أن يمنحوهم كل جوائز نوبل وخاصة الأدب، لأن أولئك البعض من المسؤولين أبدعوا في كتابة القصص والروايات الساخرة.
أصبحنا الآن نشتري كهرباء من القطاع الخاص دعماً للخصخصة، وغداً المياه، ونحن نعرف أن الصراع المسلح على الأرض هو خارج أرادة الجميع، لكن حلول واكتشافات البعض من المسؤولين لا ترقى إلى مستوى الأزمة، لا بل لا ترقى إلى مستوى مسؤول من الدرجة العاشرة.
المهم في الموضوع أن الكثير ممن أعرفهم هاجروا مؤقتاً – وأنا واثق أن الغالبية منهم ستكون هجرتهم دائمة، وأنا أعلم أن الهجرة للأقليات بدأت ولكنها مغايرة للمُتوقع، فهي بدأت من الجيل الشاب حيث سافر لمتابعة دراسته، وهو لن يعود إلى سورية إلّا قسم طفيف منه، وبعد فترة من الزمن سيهاجر جيل الآباء ليلتحق بأبنائه وستتفرغ المنطقة مباشرة برأي بعد عشر سنوات.
عزيزتي مي ..
هذا بعض ما لدينا أحببت أن أنقله لك،…. وأنا لا أستطيع أن أجبرك على العودة في هذه الظروف.
لينهى لها الرسالة كما بدأنا بها.
لو تأخر المهندس المستشار باسل قس نصر الله عن الكتابة لـ عزيزته وعزيزتنا " مي" ربما استبدل بعض المعاناة التي كانت تعيشها حلب لحظة الكتابة ففي نفس التو واللحظة كان الجيش العربي السوري تمكن بالفعل من الوصول ﺇﻟﻰ ﻣﺒﻨﻰ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ لمياه ﺍﻟﺸﺮﺏ " ﻣﺤﻄﺔ ﺿﺦ ﻣﻴﺎﻩ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺍﻟﺤﻠﺒﻲ " ﻭﻧﺎﺩﻱ ﺣﻠﺐ ﻓﻲ ﺣﻲ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺧﻀﺮ ﺍﻟﻤﺘﺪﺍﺧﻞ ﻣﻊ ﺣﻲ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺍﻟﺒﺎﺷﺎ وأن وحدات من الجيش السوري والقوات الرديفة استعادت السيطرة على مشفى الكندي في ريف حلب الشمالي ورفعت العلم السوري في المنطقة.
 
المهندس المستشار باسل قس نصر الله قيمة قلما تلتقي بمثله .. متصالح مع نفسه، قارئ للتاريخ البشري بوعي يمقت التعصب لحد الكراهية، الكلمة لدية ليست مجرد حروف مرصوصة والسلام بل بها روح.
 
التقيت به بمكتب الصديق جمال نسله مدير مكتبة جامعة حلب كأني أمسكت بصيد ثمين كنت فى حقيقة الأمر أسعي للقائه فكثيرا ما قرأت له وعنه ...
سألته: 
فرد :
لا تستطيع حلب إلا أن تنتصر .. 
ثم تركت له العنان فقال :
لما رأيـتُ السحـرَ في حلـبٍ ........ أدركـتُ كيـف يُقطّـرُ العنـبُ
وعرفـتُ كيـفَ رفاقنا ثَمِلوا ........ فيها، وما سَكَبـوا وما شَرِبوا
هذه الكلمات التي قيلت في مدينتي أيقظت في داخلي سراً دفيناً، كيف تجذبني حلب؟ وكيف تسحرني تلك التي رفضتُ – مجرد التفكير – أن أغادرها كما الكثيرين فعلوا، عندما أصبحت حلب هي المدينة الأكثر خطراً للعيش.
حجارتها، أرصفتها العتيقة، بيوتها القديمة المتهالكة وأبنيتها الحديثة، عبق رائحتها، شجرات الكباد أو النارنج ودالية العنب الصامتة وبرك الماء الثرثارة في فناء أحواشها القديمة.
 
عشقت ترابها وهواءها وكل أسمائها التي تعددت فمن حلبو عاصمة مملكة يمحاض إلى بيرويه وحلب وغيرها.
مرّت عليها عاديات الزمن، وبقيت قلعتها شامخة.
 
مرّت فيها جحافل وشعوب من التتار والمغول والكثير غيرها، فتعلموا منها المدنية والحضارة.
 
تكالب عليها قطاع الطرق واللصوص باسم الدين.
 
تكالب عليها الظلاميون والجهلة وهي التي تفتخر أنها أول مدينة عربية دخلت فيها الطباعة عام 1706م.
 
مدينة المتنبي وأبي فراس والسهروردي والكواكبي وغيرهم الكثير الكثير
مدينة حلب التي كانوا يريدون أن يتحكموا بها من خلال تخلفهم، هي مدينة الإمبراطورة تيودورا التي تحكمت بإمبراطورية بيزنطة.
 
لا شك أن مدينة “حلب” تعرضت على مرّ التاريخ للدمار والخراب أكثر من مرة، بسبب عوامل مختلفة مثل الطاعون والكوليرا وأربع هزات أرضية، بالإضافة إلى غزوات الفرس و الروم و التتار عليها، وربما تكون الهجمة الدولية الأخيرة على هذه المدينة من أبشع وأفظع الهجمات التدميرية التي تعرضت لها “حلب” على مر التاريخ.
 
كم استيقظت وعلى مسافة أقل من كيلومتر واحد، كنتُ أرى علماً – يمثل رمزاً دينياً شريفاً – أصبحوا يستخدمونه كرمز قتل وإرهاب.
 
لم تنتابني لحظة من الخوف، لأنني كنتُ واثقاً أن حلب التي صمدت مئات السنوات وتحملت كل الصعاب، لم تركع في السابق ولن تركع الآن.
 
كنتُ أنا العربي السوري الحلبي المسيحي واثق من أخي المسلم، وثوق التنفس بالرائحة العطرة.
 
كنت أسمع عن الفظائع التي يرتكبوها في جزء من حلب الذي احتلوه، فمن قطع رقاب على مصارف الطرق، ومن إقامة حدود ظاهرها الشرع، وباطنها الإرهاب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
 
أسمع من الذين هربوا في البداية عن الفظائع التي تُرتكب باسم الدين، بحق الناس والمدينة الصامتة.
 
وكانت قلعتها رمزاً من رموز صمودها
قلعة حلب بعنفوانها، وحجارتها التي كتبت التاريخ، ودَرَجها الذي يوصلها الى أعالي المجد، في هذه القلعة بقيت ثلة من الجنود تحميها وتدافع عنها ضمن البحر الهائج من الالإرهاب والرعب والقتل
 
تطهرت حلب وليس تحررت ...
تطهرت من الفكر الظلامي والتشنجي الأعمى قبل أن نقول أنها تحررت أرضها.
وأصبحت قلعتها كما كانت في السابق، رمزاً لحلب، وشموخها، وصمودها، وناسها الطيبون.
جاء جمال  قلعتها الفريـد عن انصياع القـوة والخلـود والنبـل والقسـاوة التـي يمنحها الحجر بخطوطه المشدودة.
ولكن الأهم من حجارتها، هو ناسها الذين سكنوها وعمروها على امتداد آلاف السنين، وأحفادهم اليوم – أحفاد سيف الدولة والخصيبي والقديس جاورجيوس (الخضر الذي أحد مزاراته في قلعة حلب) – هم من حررها.
مدينة حلب مفخرة ومنارة ...
ولا أجمل من قول الأخطل الصغير فيها:
لو الـّف المجـدُ سفـراً عن مفاخـرهِ ........ لراحَ يكتـبُ في عنـوانـهِ حلبــــا.
همست قائلا قبل أن ينهض:
الآن تأكد لي سر عظمة اخناتون ...
سألني :
ما هي؟
أنه تزوج وعشق نفرتيتي الحلبية ..
استغرب ورد في الحال: هل فعلا نفرتيتي حلبية ..؟!
قلت له :
هذا ما وصف بالزواج المقدس بين الأسرتين المصرية والميتانية (شمال غرب سورية)، وذكر بعض مقاطع الرسالة التي حملتها نفرتيتي"الجميلة" معها إلى مصر بأنها بعد الزواج لعبت نفرتيتي دورها في بلاد الفراعنة ، وبخاصة حول نقلها عقيدة إله الشمس الميتانية إلى بلاد الفراعنة ، إذ تؤكد بعض الرقم الأثرية التي عثرت عليها في تل العمارنة في مصر على أن (تتوخبا (نفرتيتي) ابنة الملك الميتاني نقلت طقوس عبادة إله الشمس من ميتاني في شمال سورية إلى الديار المصرية في الفترة الفرعونية.
شكرني ووعد أن يبحث عن كامل التفاصيل .....
ماجدى البسيونى