فاطمة ناعوت
«هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ؟» «الرحمن»-٦٠، آيةٌ قرآنية جميلة تُعلّمنا ألا نردَّ الجميلَ إلا بالجميل، وألا نبخسَ الناسَ أشياءَهم، ولا نجحدَ فضلَ المحسنين، بل نكافئهم بالإحسان والامتنان. «لا يفِلُّ الحديدَ إلا الحديدُ»، مَثَلٌ دارجٌ استلهمناه من علوم الفيزياء بأن المعادنَ لا تقطعُها إلا معادنُ أقسى، وبالإنجليزية Diamond cuts diamond، ذاك أن الألماسَ لا يقطعه إلا الألماسُ من فرط صلابته. وكثيرة هى المأثورات التى تقول إن الدواءَ غالبًا كامنٌ فى الداء مثل «الفاكسين». ولكن القوسَ ليس مفتوحًا على مصراعيه. فمثلا ليس علاجُ النارِ بالنار.
ولا علاجُ الكراهية بالكراهية. ولا علاج الحروب بحروبٍ مضادة. وإلا اشتعلَ العالمُ نارًا وبغضاءً وحروبًا. ومن أجلى الأمثلة على ما هو خارج قوس «الجزاءُ من جنس العمل»، هو «الطائفية». الطائفيةُ أبدًا لا تُعالَج بالطائفية، بل بوأدها فى مهدها: بمحاسبة المتطرف، وتفعيل العدل بين الناس وعدم التمييز بينهم على أسس عَقَدية، وهذا جوهرُ «المدنية» وفلسفةُ «العلمانية» التى تنادى بوقوف الدولة والقانون على مسافة متساوية من جميع الأديان، حتى ننعم «جميعًا» بنفس الحقوق، ونلتزم «جميعًا» بنفس الواجبات، تجاه الوطن.
الأيام الماضية ثارت صفحات سوشيال ميديا إثر نشر كشفٍ يضمُّ ٥٠ طالبًا وطالبة من المسيحيين، مصحوبًا بتعليق يقول: «إحدى المدارس بمحافظة القليوبية قد فصلت الطلابَ المسيحيين عن زملائهم المسلمين، ووضعتهم فى فصل وحدهم. وتواترت كشوفٌ مماثلة من بضع مدارس أخرى. وعلى الفور أجرى وزير التعليم د. «رضا حجازى» تحقيقًا فى الأمر، ثم أصدرت الوزارةُ بيانًا أوضحت فيه «أن هذه الكشوف لحصص الدين المسيحى التى ينفصلُ فيها الطلابُ المسيحيين عن زملائهم المسلمين».
وهذا فى ذاته أمرٌ علينا أن نُفكر فيه بنهج من «خارج الصندوق»، بحيث نكفُّ عن فصل الطلاب ليتعلموا «مادة الأخلاق»، والمشتركات العديدة القيّمة بين الأديان، لئلا نغرس فى أبنائنا روح الشقاق فى أولى سنوات حياتهم، وتلك خطوة مهمة لمحاربة الطائفية التى نسعى إلى وأدها فى «الجمهورية الجديدة».
وأوضحت الوزارةُ فى بيانها: «أن الوضعَ عاد إلى أصله وتم دمجُ الطلاب، مسلمين ومسيحيين، فى فصول واحدة، تأكيدًا على سياسة الدولة وعدم العنصرية». ونشكر الوزارةَ على سرعة التحرك ومعالجة الأمر، وإن كانت الجملة الأخيرة تشى بأن بعض المدارس كانت قد تحركت بالفعل نحو فصل الطلاب بعضهم عن بعض على أساس الدين!.
ويظلُّ السؤالُ: هل نعالجُ الطائفية بطائفية مقابلة؟! نادى «عيون مصر» الذى أنشأته الكنيسةُ لاكتشاف الموهوبين المسيحيين فى كرة القدم، أثار زوبعةً رافضة من الجميع، مسلمين ومسيحيين. وكنتُ بالقطع من الرافضين، لإيمانى بأن تشرنق المسيحيين فى دوائرَ مغلقة يُعطِّلُ مساعى المدنية التى ننشدها فى وطننا، ونكافحُ من أجلها منذ دهور، حتى مَنَّ اللهُ علينا بالرئيس السيسى المستنير الذى يؤمن بالقول والفعل بأن «الدينُ لله والوطنُ لأبناء الوطن» جميعًا دون تمييز.
ولكن، ونحن نرفضُ «نادى عيون مصر»، نظرنا إلى «النتيجة» ولم ننظر فى «السبب»! وهذا خطأ جسيمٌ فى معالجة أى مشكلة. فحين تُصاب بالصداع وتتناول قرصَ أسبرين، فأنت لم تعالج «المرض»، بل عالجت «العَرَض»، والمرضُ باقٍ. فقد يكون الصداعُ بسبب خلل فى القلب أو الأعصاب أو الأمعاء، مما لن يعالجه الأسبرين.
علينا أن نسأل: «لماذا فكرت الكنيسةُ فى إنشاء نادٍ تابع لها؟» الإجابة: لأن العنصرية والطائفية تسكن حشايا المجتمع فى عمقها الدفين فى «المنطقة العمياء». جميعنا نصرّح بأننا غيرُ طائفيين، لكن بعضنا طائفى بالفطرة، دون أن يشعر. ولدىّ من القصص الكثيرُ يؤكد أن المسيحيين غير مرحّب بهم فى نوادى كرة القدم المرموقة والمنتخب.
ولهذا قال القس «جرجس شفيق» المسؤول الإدارى لنادى «عيون مصر»: «إن فلسفة النادى هى البحث عن موهوبى كرة القدم ممن خذلتهم الأندية الكبرى لأسباب طائفية. وأنه مفتوحٌ للجميع مسلمين ومسيحيين، وأن ٦٠٪ من الإداريين فى النادى مسلمون».
وإذن فالنادى ليس طائفيًّا كما كنا نظن، لكنه مثل مدارس الراهبات التى أبوابُها مفتوحة للمسلمين والمسيحيين على السواء طلابًا ومدرسين. وأنا هنا لا أُروّج لنوادٍ رياضية طائفية، فأنا أحاربُ التشرنق المسيحى الذى يجده المسيحيون أحيانًا حلاً للإقصاء المتعمّد أو غير المتعمد، بل أوضح الأمرَ من باب الأمانة الصحفية والإعلامية. ومازلتُ أؤكدُ على أمرين. ١- الطائفيةُ تُنتجُ الطائفيةَ.
وعلاجُ الطائفية لن يكون إلا بالعدالة ونشر ثقافة المواطنة الخالية من التعصب وتطبيق مبادئ الدستور التى تنصُّ على أن الوطن لنا جميعًا بنفس القدر ولا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل والموهبة. ٢- أن نبحث عن سبب المشكلة وجذورها ونعالجُ السببَ، قبل أن نعالج التداعيات. وأخيرًا ودائمًا: «الدينُ لله والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم