" بقلم المهندس باسل قس نصر الله
إنه موسم عودة المهاجرين المسيحيين إلى سورية.
أسيرُ في مدينتي .. حلب .. فأرى أحدَ من هاجر، ونتبادل التحيّة والقبلات والإطمئنان على بعضنا البعض، ويخبرني الخَبَرَ الصاعق .. إنه ينزل في الفندق وليس في بيته .. "البيت غير جاهز .. فهناك مشكلة الكهرباء .. وغيرها" وأنه موجود لينهي بعض الأعمال، ثم يهمس لي بأنه أتى لإنهاء وكالات قانونية "لكي أبيع أملاكي".
نعم يا سادتي، كل من هاجر من السوريين يعود الآن ليُرتِّب أموره القانونية لأجل "فض الاشتباك" بينه وبين الوطن.
يقيمون في الفنادق التي قد تبعد عن بيوتهم مسيرة دقائق.
أتخيّلهم وهم يزورون منازلهم .. هنا غرفة من كانوا أطفالاً وأصبحوا شباباً في الهجرة.
هناك غرفة الإستقبال التي شهدت أفراحنا وأحزاننا.
هل تذكرين يا زوجتي؟ هنا كان يجلس أبي وأمي ..
وفي هذه الغرف كان يمرح الصغار ويلعبون .. ويتشيطنون .. وأمك وأمي تصرخان فينا .. لا تضربوا "سامر" ولا "ميشيل" ولا "سهيل" ولا "نجوى".
كانتا تمارسان "حق الفيتو" على قراراتنا .. بينما أبوينا يلعبان "طاولة الزهر".
هنا المطبخ حيث كانت أطباق الطعام تُعدّ وتوزَّع على المائدة والضيوف.
ثم يغلقان الباب ويعودان إلى الفندق.
هم يعودون فقط بدون الأبناء .. "إننا نرتِّب الأمور ونبيع لأنهم لن يعودوا".
"الحمد لله .. أمورهم جيدة .. ولكن كل واحدٍ منهم في مكان .. ووقتهم لا يسمح لهم بزيارتنا كثيراً .. وبالتأكيد فهم لم يستطيعوا القدوم معنا".
يزورون الكنائس ويمارسون "وقار التقوى" ويسلّمون على الناس ويتبادلون القبل.
وآخر يخبرني أنه أيضاً سيستفيد بأن يعمل أسنانه، ويجري عملية جراحية لزوجته هنا .. لأن الدور للمعالجة "لدينا في كندا بطيء".
هذه ملخص زياراتهم .. وحتى في عودتهم تحضنهم سورية الجريحة .. تحضنهم في مشافيها ومن بقي من أطبائها.
يزورون قبور أهاليهم .. ويتفقدونها .. ويضعون زهوراً من سورية.
حتى زهور موتانا نأتي بها من هذه الأرض.
بقايا زوايا منازلنا تكتب تاريخ طفولتنا وشقاوتنا ومراهقتنا وشبابنا وهجرتنا.
نزور موتانا لنطلب السماح منهم بأن لا أحد من أبنائنا سيزورهم بعد ذلك، وأنهم نهاية سلسلة العائلة.
يزورون أطباء الأسنان والمشافي ليتعالجوا طبياً .. ولكنهم في الحقيقة يتعالجوا من هجرتهم وبعدهم.
يأكلون الفول ويزورون "قلعتنا" في حلب ويبحثون عمّن يعطيهم جرعة من "شراب السوس" ويأكلون "الهيطلية" ويشحنون أنفسهم من هواء حلب وسورية.
هم سيغادرون عندما تنتهي وكالاتهم القانونية .. ويبيعون ..
وتبقى "طاولة الزهر" لا أحد يلعب بها.
اللهم اشهد اني بلغت