عاطف بشاي
لا أحد يعرف على وجه الدقة مَن هم الذين منعوا الممثل والمطرب «محمد رمضان» من التغريد الصادح في الإسكندرية.. هل هم صفوة فنانى ومثقفى عروس البحر الأبيض المتوسط الأحرار، الذين عزَّ عليهم تفشِّى الفن الردىء، الغيورين على تقلص مساحة الفنون الراقية في البلاد.. أم هم طليعة الجماهير الثائرة الغفيرة المستاءة من شيوع الإسفاف والرخص والتدنى في الألحان والكلمات الفجّة.. وهم الذين على حد تعبير الأستاذ «محمد حسنى رضوان»، الساخر على صفحات التواصل الاجتماعى: طبيعى أن أهالى الإسكندرية يرفضون الفن الهابط بأمارة السواقين، اللى 24 ساعة مشغّلين سيمفونيات بتهوفن وموزارت وبرامز ورحمانينوف.. أم هم جحافل الإخوان والسلفيين، الذين يسعون- كما تصور البعض- إلى حبك تفاصيل مؤامرة خبيثة لتدمير الفنون السامية كراهية وازدراءً، في إطار الخطة الجهنمية لسيطرة ثقافة «الحلال» و«الحرام» عن طريق فرض الوصاية والإقصاء وازدراء الآخر ونسف أواصر الدولة المدنية وفتح الأبواب من جديد للتصحر والتكفير وإنكار مظاهر الدولة الحديثة ودعم الإسلام السياسى عن طريق «المطوعين» الأشاوس، الذين يرفعون هراوات «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» ويدعون إلى عودة الحكم الدينى؟.
إذا كان الداعون إلى منع «رمضان» من الشدو النشاز وإقصائه هم نخبة الفنانين والمثقفين، الذين يخشون من انتصار ما يمثله «رمضان» وأمثاله من ذيوع الفنون الهابطة بهدف تغيير ذائقة العامة والسعى الحثيث إلى إفساد أذواق الجماهير العريضة.. فلماذا إذًا سمحوا لـ«حمو بيكا» بالتواجد والسطوع في أرجاء الثغر الكوزموبوليتانى العريق.. والاحتفاء به والانبهار بإبداعاته المبهرة.. هل هناك فروق جوهرية تميز «حمو بيكا» فنيًّا بمقاييس ذلك الذي يسمونه «الذوق العام» عن «رمضان»؟!.
أما فيما يتصل بالجماهير الغفيرة، فهل ثارت ثائرتهم ضد القبح في مواجهة الجمال المفتقد فجأة وعلى حين غرة دونما سابق إنذار نتيجة صدمة تنويرية مباغتة في وعيهم الجمعى أو دعوة وطنية طليعية تدعو إلى حماية الوطن من عبث السوقة بمُقدَّراتهم العظيمة وحضارتهم العتيدة؟!.
أليس ذلك معناه تلك المفارقة المدهشة والمضحكة أنهم يتفقون مع التكفيريين والظلاميين شكلًا ومضمونًا في نبذ «الغث» دفاعًا عن «السمين»، ويصبحون- من خلال ذلك المنظور- صديقين لدودين يجمعهما هدف واحد ورؤية مشتركة.. وذلك ينفى بالطبع نظرية المؤامرة السلفية؟!.
نخلص إلى أن الحقيقة المؤكدة والدامغة هي أكذوبة الاعتماد على مسميات وشعارات زائفة.. يتم ترويجها والاستناد إليها في تفسيرات قاصرة وغير صائبة في الكثير من الأحيان وتطبيقات يعوزها المنطق والدقة العلمية، منها التكريس لما يطلق عليه «الذوق العام» سواء كان راقيًا أو فاسدًا.. وما يماثله من شعارات أخرى مثل «مراعاة الآداب العامة».. تلك العبارة المضحكة، التي تُذيَّل بها تقارير الرقابة على المصنفات الفنية وضرورة السعى إلى «الأخلاق المرعية» و«المبادئ المستقرة» و«القيم الثابتة».. فالجماهير في النهاية يمثلون رهطًا كبيرًا من البشر مختلفى الأعمار والجنسيات والطبقات الاجتماعية والأبعاد النفسية المتنافرة وتعدد مستويات التعليم والثقافة.. وهم متنوعو الميول والرغبات والأخلاقيات والأهداف والاتجاهات.. وهم في النهاية لا يندرجون تحت راية مذهبية واحدة.. ورواد السينما مثلًا الذين تجمعهم قاعة مظلمة يختلفون ويتفقون في تقييمهم للفيلم المعروض.. وحتى إذا اتفقوا فهم يختلفون في أسباب هذا الاتفاق.. وأيضًا إذا اختلفوا فإنهم يختلفون لأسباب ذلك الاختلاف.
إن الأغلبية الغفيرة تفتقر في النهاية إلى «الوعى العقلى»، الذي يمكن الارتكان إليه لتغيير ملابسات قضايا أو اتخاذ قرارات مشتركة صائبة.. ويجمعهم سلوك عشوائى يندفعون فيه إلى المحاكاة والتقليد والتبعية والخضوع لتصرفات وقرارات غوغائية زاعقة مُحرِّضة انفعالية وصاخبة تعتمد على التلقين والتقليد وتكريس المسلمات الثابتة.. والآراء السلفية البائدة والتحزُّبات المهترئة.. والأهداف المتهافتة.
إلى متى إذًا سنظل ندور في دائرة المسلمات الزائفة التي تحكم تقييمنا الحاسم الباتر لقضايا فكرية وأدبية وفنية تقودنا إلى قرارات غير صائبة.. أو تصنيفات غير علمية أو موضوعية؟، فالمتأمل مثلًا في عبارة: مع مراعاة الآداب العامة سيكتشف أنها عبارة مطّاطة.. لأنها ببساطة تجيب عن مجموعة من الأسئلة الحتمية المُثارة، مثل: ما تعريف الآداب العامة؟!.. وما علاقتها بالأخلاق المرعية؟!.. وهل هناك أخلاق عامة وأخلاق خاصة؟!.. وما حدودها، ومَن الذي يقدر هذه الحدود؟!.. وهل تتناسب تلك الأخلاق أو الآداب العامة مع طبيعة المجتمعات وسلوك أفرادها في كل المراحل الزمنية.. والحقب التاريخية.. وتطور التوجهات الحضارية؟!.
إنه العبث بعينه.
وصباح الخير أيها «الذوق العام».
نقلا عن المصرى اليوم