محمود العلايلي
كتبت، الأسبوع الماضى، على هذه الصفحة، أن الفلسفة الكامنة وراء إنجازات المصريين القدماء هى امتلاك أصل العلم وأدواته، والحقيقة أن هذا وإن حدث خلال القرون الخمسة والعشرين التى سبقت الميلاد، فالكلام عنه يختلف الآن بحكم تغير الزمن وتبدُّل موازين القوى، التى تبدلت معها تلقائيًّا موازين العلم، حيث إنه بنظرة سريعة لن تجد دولة متقدمة علميًّا إلا وكانت تلقائيًّا مزدهرة اقتصاديًّا وبالتبعية مستقرة سياسيًّا، ومع الاستقرار الحالى على خرائط الثروة وتوزيع الثقل الاقتصادى، مع تجنيب الاقتصادات الريعية المعتمدة على ما تلفظه الأرض، وجدنا هذه التوأمة بين العلم والثروة، حيث لا يسهم العلم فى العملية الإنتاجية فحسب، ولكن يشمل علوم الاستثمار والتسويق والمحاسبة، بالإضافة إلى دراسة الأسواق وعلوم القانون والتشريع.
وبالرجوع إلى ما يشغلنا فى الحالة المصرية، تتلخص حالة مصر الاقتصادية المتأزمة فى الفارق بين ما تستورده مصر من مستلزمات إنتاج وسلع غذائية واستهلاكية بكل أنواعها، بالإضافة إلى المُعَدات والماكينات، فى مقابل ما تصدره مصر، والذى لا يتجاوز رقمه 32 مليار دولار سنويًّا، وهو رقم هزيل يعكس أن نصيب الفرد من التصدير لا يتجاوز 300 دولار سنويًّا، فى حين أن مبلغ العملة الأجنبية من دخل قناة السويس يبلغ 7 مليارات سنويًّا، والسياحة تقارب 13 مليارًا، بينما يأتى المورد الأساسى من العملة من تحويلات المصريين فى الخارج، وهو ما يتجاوز 30 مليار دولار بقليل، وهى أرقام مثيرة للانتباه، وتستدعى الوقوف عندها للعمل على تنميتها وزيادة مردودها.
إن البحث عن أى حل غير زيادة قيمة الصادرات المصرية، التى لا تتجاوز 32 مليار دولار، بزيادة الإنتاج القائم على التصدير، يشبه جحا، الذى ضاع منه قرش فى ظلام الحجرة، فذهب ليبحث عنه تحت المصباح فى الشارع لعله يجده، إلا أن هذا الإنتاج القائم على التصدير يحتاج إلى استثمارات، وهذه الاستثمارات تحتاج إلى مناخ له القدرة على اجتذابها والآلية الممكنة لاستمرارها بعيدًا عن التصريحات على شاكلة «إننا نمتلك بيئة محفزة للاستثمار، ومقومات استيعاب التوسعات الاستثمارية، ومبادرات داعمة للإنتاج المحلى وجاذبة للقطاع الخاص، إننا حريصون على تذليل أى عقبات ضريبية أو جمركية، والتيسير على مجتمع الأعمال، وجذب المزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتعظيم قدراتنا الإنتاجية»، وهى العبارات التى حفظها الجميع على أنها الدعايات الرسمية الداعمة للاستثمار من ناحية، بينما يحفظها الواقع العملى على أنها المعوقات المزمنة للاستثمار دون تغيير منذ عصر الانفتاح فى بداية الربع الأخير من القرن الماضى.
إن الأزمة الحالية أظهرت أن هناك خلطًا واضحًا بين منطلقات حل الأزمة المالية، وبين الترتيب لوضع خطة استراتيجية طويلة المدى للاستثمار، كما أن هناك أزمة أخرى يجب أن يتم تفكيكها قبل الإقدام على خطوة قصيرة المدى أو خطة طويلة الأجل، وهى الثبات على منظور اقتصادى واضح بين كل أطراف المنظومة الاستثمارية.
حيث لا يمكن أن تُطرح أى وحدة استثمارية للبيع أو المشاركة على أساس تقييم سعر السوق، ثم تتم محاولة توجيه ذلك السعر أو الاعتراض عليه عند تنفيذ العملية، حيث يحتوى ذلك على قدر كبير من التناقض يثير ريبة المستثمرين المحتملين ويدفعهم إلى التردد والتراجع على حساب الإقدام والمجازفة فى المشاركة فيما هو قائم أو استثمار ما هو قادم.
إن التخطيط الاقتصادى علم، كما أن إدارة الأزمات علم، ولقد برع أهل طيبة فى تلك العلوم بمعايير زمنهم حتى صاروا أعظم الأمم بمعايير هذا الزمن، أما نحن فنريد تطبيق هذه العلوم بمعايير زمننا دون أن نطمح أن نكون أعظم الأمم بمعايير أى زمن، ولكن بطموح الحياة المستقرة الكريمة بمعيار زمننا إن أمكن!.
نقلا عن المصري اليوم