أحمد الجمال
أواصل كتابة نبذات مختصرة عن رواد علماء فى مجال الآثار وتاريخ مصر القديم، وقد عمدت- كما أسلفت- للتركيز على المسيحيين المصريين فى ذلك المضمار، لأسباب سبق وذكرتها.
وتوقفت فى مقال الأسبوع الفائت عند الجانب الأكاديمى للعالم الفذ الدكتور سامى جبرة (1893- 1979)، وأتجه اليوم لإلقاء بعض الضوء على مسيرته العلمية، حيث ارتبط اسمه بمنطقة «تونا الجبل» الواقعة على أطراف الصحراء الغربية، وعلى مسافة من الشاطئ الغربى لبحر يوسف، واستمر يعمل بها أكثر من عشرين عامًا، استمرت من العام 1931 إلى 1952، واستخدم تقنية «الديكوفيل» فى أعمال التنقيب، وهى عبارة عن عربية معدنية يقودها ويدفعها العمال على قضبان حديدية، واعتمد على حوالى 250 عاملًا، منهم عشرون من قفط والقرنة، والبقية من بلدته أبنوب والقرى المجاورة، وعاونه فى الحفائر الدكتور نجيب ميخائيل إبراهيم، والدكتور أحمد بدوى، وخبير رسم الآثار المصرية بديع عبدالملك، والمصور والرسام يوسف خفاجى.. وآخرون.
واكتشف آثار الأشمونين، ومنها مدينة كاملة المعالم، بالإضافة إلى كثير من النقوش والبرديات والوثائق بالهيروغليفية والديموطيقية خاصة بالإله حموتى، إله الحكمة المصرى القديم.
وقام الدكتور سامى جبرة بتسجيل مذكراته عن هذا الكشف المهم، وصدرت بالإنجليزية فى كتاب عنوانه «فى رحاب المعبود توت: رسول العلم والمعرفة.. مذكرات أثرى»، وقد تمت ترجمته عام 1974 بواسطة عبدالمعطى جلال ومراجعة الدكتور أحمد بدوى. وبعد أن أحيل سامى جبرة للمعاش عام 1953 قام بالتدريس فى المعهد الشرقى بجامعة شيكاغو الأمريكية لمدة عامين، وعاد لمصر ليساهم بفعالية فى ترسيم متحف ملوى القريب من تونا الجبل، وهو من أفضل المتاحف المصرية، ثم اختير نائبًا لرئيس المجمع العلمى المصرى، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1957
ومن الذكريات المتفردة التى حملها سامى جبرة ومن كانوا معه أنه عندما التقاه عالم الآثار الألمانى الأشهر «إيرمان»، تطلع فى وجهه بمنظاره الضخم وتمعن طويلًا فى ملامحه وقال له: «أنت قبطى أصيل من سلالة أمينوفيس الثالث، ذلك الفرعون الحبيب الذى أود أن لو أتيح لى رؤيته».
ورحل سامى جبرة فى العاشر من مايو 1979، ثم إن هناك تخصصًا علميًا دقيقًا لا يعرف كثيرون- حتى من أهل الثقافة- عنه الكثير، ويندر أن تقرأ لأحد من المهتمين بالمصريات كتابة مستفيضة عن ذلك التخصص، من حيث أصوله ومساره ورواده وأهميته البالغة، وهو تخصص رسم الآثار المصرية وتسجيل نقوشها بدقة متناهية، حتى إذا تعرض الأثر لأى عوامل أو أحداث تؤثر على وجوده أو نقوشه كان محفوظًا، إضافة إلى أن الإصدارات التى تصدر عن الآثار- من كتب أو كتالوجات وألبومات- تعمد على أهل هذا التخصص الذين يأتى على رأسهم وفى مقدمتهم الأستاذ بديع عبدالملك، الذى ولد عام 1908 ورحل عام 1979، ونبغ مبكرًا فى فن الخط والرسم، فالتحق بالمعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة عام 1932، واشترك مع بعثة المعهد فى العمل بمعبد دندرة فى الفترة من 1932 إلى عام 1933، ثم معبد إدفو عام 1935، ثم معبد هابو عام 1937، وأوفد من المعهد الفرنسى إلى فرنسا لمتابعة العمل فى كتاب معبد دندرة الذى أصدره المعهد عام 1939 وقام الأستاذ بديع عبدالملك أو «بديع أفندى»- حسبما كتب المسيو «إيميل شاسينا» عالم الآثار الشهير ومدير المعهد- بتنفيذ جميع الرسومات الفرعونية الدقيقة التى احتواها الكتاب الواقع فى خمسة أجزاء من الحجم الكبير، ثم عمل بديع عبدالملك فى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية، وساهم آنذاك مع بعثة المتحف فى التنقيب عن الآثار بمناطق كوم الشقافة وعمود السوارى، ثم منطقة سيرين الليبية المعروفة باسم «القيروان»، وبعدها مناطق كوم الدكة و«كافلة» مركز أبو حمس..
واعتمادا على هذه الخبرة العميقة العريقة، استدعى مرة أخرى للمعهد الفرنسى ليرافق بعثته للعمل بجزيرة «فيلة» ضمن المشروع العالمى لإنقاذ آثار النوبة، وبقيت خطوط ورسوم بديع عبد الملك وستبقى مسجلة فى أكثر من ثمانية مؤلفات باللغات الفرنسية والإنجليزية تعتبر من أمهات مراجع علم المصريات، ورحل وهو يبلغ من العمر نحو 71 عامًا.
وأنتقل إلى عالم من كبار علماء علم المصريات وتاريخ الشرق القديم، هو أستاذى الدكتور نجيب ميخائيل إبراهيم، صاحب أهم موسوعة فى تاريخ الشرق القديم، وأعتمد على ما كتبه الأستاذان ماجد كامل والدكتور مينا بديع عبدالملك، وأنوه ثانية إلى أننى استقيت مادة معظم ما كتب فى هذا السياق مما قرأته لهما مجتمعين أو منفردين، وهما معا من أشارا إلى نقص شديد فى المعلومات عن نجيب ميخائيل، ولولا جهد حفيدته المهندسة المعمارية «ماجى حسنى عزت» لما تمكن أحد من الكتابة عنه، حيث ولد عام 1901 ورحل عام 1987 وحصل على ليسانس الآداب عام 1922 ودبلوم معهد الآثار عام 1926 وعمل بعدها مساعدًا للعالم الكبير الدكتور سامى جبرة فى حفائر تونا الجبل، وحصل على الدكتوراة فى الآثار عام 1944، وكان أول أمين لمتحف الآثار التعليمى بآداب إسكندرية، ولعب دورًا مهمًا فى الحصول على قطع أثرية نادرة من الذين كانوا يقتنون مجموعات أثرية خاصة، حيث كان القانون لا يحظر امتلاك الأفراد للآثار ولا الاتجار فيها وتداولها بالأسواق، وحصل ذلك المتحف على إهداءات من بعض مثقفى الإسكندرية أمثال: أنطونى بيانكى، ومنصور عبدالسيد منصور.. وغيرهما.
وأستكمل هذا السياق فى مقال مقبل..
نقلا عن المصرى اليوم