لواء د. سمير فرج
تتصاعد الأحداث فى الحرب الروسية الأوكرانية يوما بعد يوم، وأصبح من الصعب التكهن بما سيحدث الأيام القادمة. وكان الهجوم الروسى على أوكرانيا قد بدأ فى 24 فبراير الماضى. حيث كانت جميع التقديرات من كل الخبراء العسكريين، ومراكز الدراسات الاستراتيجية فى العالم كله ترى أن هذه الحرب لن تطول أكثر من ثلاثة إلى أربعة أشهر، على أكثر تقدير. وكان السبب فى ذلك هو أن روسيا هى القوة العسكرية الثانية فى العالم، وأوكرانيا بترتيب القوة العسكرية الـ 25 فى العالم. وعندما بدأت روسيا هجومها، نجحت فى العشرة أيام الأولى فى تدمير البنية العسكرية الأوكرانية نحو قواتها الجوية، والمطارات، والدفاع الجوى، والرادارات، ومراكز القيادة والتجميعات الرئيسية للقوات الأوكرانية. بعدها بدأت فى الهجوم فى اتجاه كييف العاصمة لإسقاط الدولة، حتى إن الرئيس بوتين، فى الأيام الأولى للقتال، نادى العسكريين الأوكرانيين إلى عمل انقلاب وإزاحة الرئيس الأوكرانى زيلينسكى وفى هذا التوقيت، ولجأت أوكرانيا إلى حرب المدن، لقتال القوات الروسية. الأمر الذى يعتبر لدى العسكريين أن حرب المدن هى مقبرة الجيوش المهاجمة، ولعل أبسط مثال على ذلك، فشل الجيش الإسرائيلى فى الاستيلاء على مدينة السويس، يوم 24 أكتوبر 73، عندما تصدى له أفراد من المقاومة الشعبية، وتم تدمير الدبابات الإسرائيلية، فى حى الأربعين، فى مدخل مدينة السويس. لذلك، عندما تعثرت القوات الروسية أمام كييف العاصمة الأوكرانية، فهناك من نصح الرئيس بوتين بأنه لماذا تتم إزاحة الرئيس الأوكرانى زيلينسكى، وهو رئيس منتخب من الشعب، ومطلوب توقيع اتفاق سلام، يوقع هو بنفسه على الاتفاق. لذلك، غيرت القوات الروسية اتجاه هجومها نحو شرق أوكرانيا، حتى نجحت بعد ستة أشهر فى الاستيلاء على 20% من الأراضى الأوكرانية، فى إقليم دونباس، فى لوجانسيك، ودونتسك، وزابورجيا، وخيرسون.
ولقد قامت أمريكا، ودول حلف الناتو، بدعم أوكرانيا عسكريا، واقتصاديا. ولقد كانت استراتيجية الولايات المتحدة منذ بدء القتال هى إطالة زمن هذه الحرب، بهدف استنزاف روسيا اقتصاديا. لذلك، كان دعم أوكرانيا دائما من الولايات المتحدة بأسلحة دفاعية، ولم يتم دعمها بأى أسلحة هجومية. وعندما طلبت أوكرانيا الدبابات الليوبارد من ألمانيا، تم رفض طلبها. وعندما طلبت طائرات ميج 29 من بولندا، على أن ترد أمريكا لبولندا طائرات إف- 16 بدلا منها، رفضت أمريكا. وعندما قامت أمريكا بدعم أوكرانيا بالصواريخ هيمارس ذات المدى البعيد 70- 80 كم، كان شرط أمريكا ألا تستخدم أوكرانيا هذه الصواريخ لضرب العمق الروسى. ورغم نجاح القوات الأوكرانية فى الهجوم المضاد فى اتجاه خاركيف، واسترجاعها عدة آلاف من الكيلومترات المربعة. وكان سبب النجاح، هو المعلومات، والتخطيط الأمريكى. وفجأة، بدأ الرئيس الروسى بوتين يغير من استراتيجيته، فلم يعمل على سرعة إنهاء الحرب، لكنه اتبع استراتيجية جديدة، وهى إطالة زمن الحرب، حتى تصل إلى الشتاء القادم، باستخدام سلاح الغاز الذى تصدره روسيا إلى دول أوروبا، والذى يمثل 49% من احتياجات هذه الدول، لذلك، بدأت بتعطيل دفع الغاز الروسى إلى أوروبا، تارة تحت ستار عمل صيانة فى توربينات محطات الغاز عبر خط الغاز نوردستريم. وأخيرا، كانت المفاجأة بحدوث تفجيرات فى خط الغاز ليتعطل دفع الغاز الروسى إلى أوروبا، حيث تهدف روسيا إلى حدوث أزمة فى الغاز فى دول أوروبا، فى الشتاء القادم، وبالتالى تتعرض شعوب هذه الدول إلى الشعور بالصقيع، وهنا يأتى دور الجنرال برد فى قيام هذه الشعوب بالثورة على حكوماتها، مطالبةً بالتخلى عن دعم أوكرانيا، فى سبيل الحصول على الغاز الروسى. وهذه الأيام، بدأت بعض هذه المظاهرات فى التشيك، وألمانيا.
وفى إطار هذه الاستراتيجية الجديدة، قامت روسيا بعمل استفتاء فى المناطق الأربع الأوكرانية لوجانسك، ودونتسك، وزابورجيا، وخيرسون، لسؤالهم عن رغبتهم فى الانضمام إلى روسيا، خاصةً أن معظم شعوب هذه المناطق، تتحدث الروسية، ومن أصل روسى. وجاءت نتيجة الاستفتاء بالموافقة. وأعلن، الرئيس بوتين، ضم هذه المناطق الأربع إلى روسيا الاتحادية، ورغم رفض جميع الدول الأوروبية، وأمريكا، لهذا الاستفتاء، لأنه تم فى ظل احتلال هذه المناطق، الأمر المرفوض دوليا. إلا أن جاء رد روسيا بأنها طلبت مراقبين دوليين للحضور والإشراف على الاستفتاء.
وعموما بدأت أمريكا، والدول الغربية، فى فرض عقوبات اقتصادية على روسيا. وتغير الموقف حاليا، خاصة أن هناك من يعلن أنه تكرار لما حدث عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وكان رد فعل أمريكا، ودول أوروبا، هو العقوبات الاقتصادية، التى لم تسفر عن شىء. وجاء اشتعال الموقف عند قيام أوكرانيا بعملية إرهابية بتفجير سيارة مفخخة فوق كوبرى كاريتيش، الذى يصل بين روسيا وشبه جزيرة القرم، حيث اعتبرته روسيا عملا عسكريا داخل الأراضى الروسية، لذلك، قامت بتوجيه ضربات صاروخية بقوة 75 صاروخ فرط صوتى، على عدة مدن أوكرانية، بدءا من العاصمة كييف وضد الأهداف المدنية فى محطات الكهرباء والمياه والجسور ومحطات الوقود. على أية حال، فإن الفترة القادمة ستشهد تغيرات، الأول هو بدء مرحلة التصعيد فى المنطقة، يشمل تصعيدا سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا. كذلك، بدأت الخريطة السياسية لأوروبا تتغير بانضمام هذه المناطق إلى روسيا. وثالثا، أن العالم سيدخل مرحلة جديدة من التعددات القطبية، فلن تكون أمريكا هى القطب الأوحد، بل أصبحت روسيا من الآن هى القطب الثانى، وسينضم معها، ربما قريبا، الصين، وكوريا الشمالية. كذلك، يبدأ، من اليوم، طلاق استراتيجى كامل بين روسيا والولايات المتحدة ودول حلف الناتو. وبدخول هذه المناطق الجديدة تحت العلم الروسى، تكون روسيا قد أضافت 20% من الناتج القومى الأوكرانى لها، وكذلك مناجم الفحم، فى دونباس، وصناعة الصلب، والحبوب، وأكبر مجمع لصناعة السفن فى خيرسون، وأصبح بحر أزوف الآن تحت السيطرة الروسية الكاملة. وجاءت المفاجأة الثانية، بعد إعلان بوتين ضم هذه المناطق الأربع، هو نجاح الهجوم المضاد الثانى للقوات الأوكرانية، بالاستيلاء على بلدة ليمان الاستراتيجية، حيث انسحبت القوات الروسية من هناك، ويأتى هذا الهجوم المضاد الثانى بعد نجاح الهجوم المضاد الأوكرانى الأول بالاستيلاء على منطقة خاركيف، لذلك ارتفعت معنويات الجيش الأوكرانى حاليا، حيث من المنتظر أن يستغل هذه النجاحات بالقيام بضربات أخرى ضد القوات الروسية.
وبدأ التصاعد الأكثر حول احتمالات التدخل النووى، والذى أعتقد أنه حدث بعيد المنال لكلتا القوتين. من هنا، أصبح العالم الآن يسير فى اتجاه حقبة جديدة، وأعتقد أن الجميع ينتظر ما ستظهره الأيام القادمة، والذى، فى اعتقادى، لن تظهر ملامحه، إلا بعد الانتهاء من انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى، بعدها سنرى الشكل الجديد للاستراتيجية الأمريكية، ونتائج حرب الغاز الروسى فى مسرح عمليات أوروبا الغربية.
نقلا عن المصرى اليوم