نبيل عبدالفتاح
من أبرز مظاهر ونتائج التدهور فى النظم والسياسات التعليمية فى عالمنا العربى، تتمثل فى إنتاج العقل النقلى المشوش، الذى يخلط بين النظام الديني- أيا كان، وبين المناهج التعليمية المقررة، خاصة بينه وبين النظريات العلمية التى تتغير بين الحين، والآخر، مع تطور العلوم الطبيعية، وبين قوانين الإيمان والعقيدة، وسردياتها التاريخية الفقهية واللاهوتية الوصفية التى وضعها رجال النقد واللاهوت، وبعض المؤرخين فى بعض مراحل التأسيس لهذه السرديات، وفق أسئلة عصرهم، وجماعاتهم ومناطقهم. النظريات والقوانين العلمية نسبية وقابلة للدحض والاستبعاد عندما تظهر نظريات جديدة مختلفة بينما المقدس قابل للتأويل والتفسير للإجابة على أسئلة المؤمنين والحياة بقطع النظر عن سعى رجال الدين والمذاهب لفرض طبيعة شبه مقدسة على بعض آرائهم الوضعية. ازداد هذا التشوش أيضا كنتاج للتعليم السائد فى مجال العلوم الإنسانية، وبين السرديات الدينية الوضعية، وبين اللغة وتطوراتها، وبين النصوص الدينية، على الرغم من أن النصوص الدينية، واللاهوتية، والفقهية هى تفسيرات، وتأصيل للعقيدة والطقوس الدينية، ومن ثم تأويلات بشرية، تخضع للتغير فى الزمان والمكان وثقافة أى جماعة، التى تنتج ما يطلق عليه التدين الشعبى، وأنماطه، وهو يختلف عن المقدس فى الدين، مثل هذه التخليطات فى بعض المناهج، والدروس فى العملية التعليمية أدت إلى إشاعة الخلط، والتشوش فى ذهنية وتكوين الطلاب، والطالبات منذ المدارس الابتدائية، وهو ما يؤدى إلى انشطار ذهنى بين العلوم الطبيعية المتغيرة فى نظرياتها، وقوانينها، وبين الدينى المقدس وتأويلاته. من ثم بروز ظاهرة رفض بعض المدرسين ورجال الدين للتطورات فى النظريات العلمية الجديدة، وتغيراتها، وفى نظرة الطلاب، والمدرسين للعلوم الطبيعية، والتشكيك فيها، وتحريمها إذا ما تبين لهم تناقضها مع السرديات الدينية، والمذهبية. ساهم فى ذلك أيضا نزوع بعض رجال الدين، وسلطاته المذهبية فى تسييد الدينى فى ثوابته ومتغيراته الاجتماعية، والسياسية على النظريات العلمية، وتطوراتها، لاعتبارات تتصل بسعيهم الدائب فى عالمنا العربى للسيطرة على المجتمع، من خلال الخطابات الدينية الوضعية، والفتاوى، وثنائيات الحلال والحرام وفرضها على المواطنين المؤمنين بديانتهم ومذهبهم داخل هذا الدين أو ذاك. تشجع غالب السلطات السياسية الحاكمة عربيا هذا الاتجاه، لاعتبارات تتصل بالسيطرة الرمزية، والدينية، والأيديولوجية على المجتمع، من خلال التعبئة السياسية والاجتماعية، وأيضا إقصاؤها لبعض الجماعات السياسية المدنية المعارضة لها، بل وكيل الاتهامات لها تاريخياً بالخروج على الدين وثوابته .
هذا الاتجاه مخاطره عديدة على الاندماج القومى، فى مجتمعات لا تزال انقسامية -فى المشرق العربى والسودان، وليبيا، والجزائر، وموريتانيا..الخ-، ولم تتشكل بعد القوميات فى هذه البلدان، ولا الوحدة القومية بين مكوناتها الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية والقومية، إلا من خلال استراتيجيات بوتقة الصهر، وآليات القمع المادى، والرمزى، إلا أن الوحدة القومية لا تزال فى مراحل التشكل المعاق، فى ظل مزيد من تهتك الأنسجة الاجتماعية، والتدهور الاقتصادى، والتعليمى، والعلمى، والصناعى فى هذه البلدان، وتذرى العلاقات الاجتماعية والتفكك فى الأنظمة التقليدية كالأسرة والعائلة والعشيرة، والقبيلة. من هنا يتم التوظيف السياسى للدين، ووضعياته التأويلية، وفقهه القديم فى الضبط الاجتماعى، والسياسى، إلا أن هذا السلاح الرمزى بدأ يفقد بعضا من فعالياته القديمة، مع فشل بعض الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية فى الحكم، وأيضا تعثر مراحل الانتقال السياسى فى دول الربيع العربى، وخاصة فى سوريا، واليمن، والعراق، والسودان، وتونس ، وليبيا، وفشل النخب الانتقالية المدنية فى بناء توافقات سياسية عقلانية فى حدها الأدنى للوصول إلى مرحلة إدارة التناقضات على نحو سلمى والاعتناء بمشكلات عسر الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفئات الوسطى الوسطى والصغيرة وتفكك عراها الطبقية وحياة الفئات المعسورة عند الحافة تعانى عدم القدرة على مواجهة تكاليف الحياة والبطالة.
من عقلية إنتاج التشتت والتشوش فى التعليم، إلى السياسة، إلى العمل المسئول فى أجهزة الدولة فى عالمنا العربى ، إلى الفساد المستشرى فى النظام وأجهزة الدولة والمجتمع ساهمت وسائل التواصل الاجتماعى، فى تفجير التناقضات، والتذرى الاجتماعى، وبروز خطابات الجموع الرقمية الغفيرة السطحية، والتافهة، وظهور انفجارى لعقلية التشوش، والأخطر ظاهرة إفتاء الجموع الرقمية الغفيرة فى كل الموضوعات، من السياسة، إلى الدين، إلى تاريخ المنطقة، وكل بلد، وفى التقييم العشوائى، التافه لبعض الشخصيات التاريخية والسياسية، وإطلاق الأحكام الصارمة والقاسية على كل شىء! إلى استعراضات الجسد والإيحاءات الشبقية سعيا وراء المال من الشركات الرقمية ، إلى تريندات التفاهات من الممثلين والممثلات ، والمطربات والمطربين، سعيا وراء الحضور فى وسائل التواصل ، وتتداخل فى كل هذه التفاهات الجموع الغفيرة مما يزيد من تفاقم التشوش والاضطراب والسطحية ، وهى مؤثرات على عقلية الطلاب والتلاميذ
عقلية التشوش التى ينتجها النظام التعليمى وسياساته ومناهجه، هى نتاج لهذا التاريخ الرسمى المتغير والتمجيدى والسطحى، والمحمل بالتعميميات المفرطة هو وراء ظواهر الفتاوى على وسائل التواصل الاجتماعى - يهاجمون جمال عبد الناصر مثلا، دونما درس للمرحلة التاريخية، وانجازاتها فى الاستقلال الوطنى، والدور المركزى لمصر فى الإقليم، وكفاح القارات الثلاث للتحرر الوطنى، ويركزون فقط على الأحكام السلبية المطلقة دونما دراسة عميقة للخلل فى التجربة التاريخية،! وضغوط الإمبريالية الأمريكية، والبريطانية، وإسرائيل! وفرنسا! مثال آخر على انحطاط الذائقة الأدبية الأحكام العامة على السرديات المحفوظية سواء بنقدها -وهو مطلوب نقدياً وعلمياً- أو تمجيدها بأفراط مع تناسى أنه من أعطى شرعية للرواية فى الأدب العربى، وهو أمر عظيم. تثوير التعليم فريضة وضرورة! من هنا نبدأ!
نقلا عن الاهرام