عاطف بشاي
هى التى لُقبت بـ«سارة برنار الشرق»، «كبيرة ممثلات مصر»، «ملكة المسارح»، وتُعتبر إحدى رائدات المسرح المصرى والسينما، فقد لعبت بطولة أكثر من 200 مسرحية و16 فيلمًا، وعاصرت فى حياتها جيلًا من عمالقة المسرح، على رأسهم «عزيز عيد» ويوسف وهبى وروزاليوسف ورواد السينما، وأهمهم كمال سليم، الذى قامت ببطولة فيلمه الشهير «العزيمة» (1939).. إنها «فاطمة رشدى» (1908- يناير 1996)، التى بدأت حياتها الفنية من السفح بمجرد جملة لخادمة تعلن عن مجىء الماركيز، فى إحدى المسرحيات التى تقوم ببطولتها الممثلة الكبيرة «روزاليوسف» أمام الفنان الكبير «يوسف وهبى».. الجملة هى: «سيدى الكونت.. الماركيز بالباب».. إنها جملة تقريرية لا أداء فيها ولا انفعال يبرز الموهبة أو يلفت الأنظار.. يرد عليها «يوسف بك» دون اهتمام.. ودون أن ينظر إليها: «دعيه يدخل».
تنسحب «فاطمة» إلى الكواليس، وتظل متسمرة فى مكانها ترقب باهتمام مأخوذة لـ«روزاليوسف»، التى تسيطر على إعجاب الجماهير وانبهارهم، وتتمنى فاطمة أن يأتى اليوم الذى تقف فيه مكانها وتحقق نجاحها وتلهب الجماهير أياديها بالتصفيق لها.
وفى رحلة كفاح مضنية وشاقة وسنوات من العرق والكفاح والشقاء والدموع والأحلام، تصل فاطمة إلى قمة المجد وتصبح نجمة النجمات ودرة الدرر وعمرها لم يتجاوز السابعة عشرة.. وبهر بها المسرحى العظيم «عزيز عيد»، الذى استشعر فى بداياتها موهبتها الفطرية فتعهدها بالرعاية ولقنها دروسًا فى القراءة والكتابة وأصول التمثيل.. وتوج حبه لها بالزواج منها، وقال لها عبارة لا تُنسى، هى: «أنتِ إلهة الفن.. وآلهة الفن لا يجوعون».. حين عبرت له عن خوفها عليه أن ينفق كل نصيبه من أرباح شراكته لـ«يوسف وهبى» فى مسرحية، بعد أن أصبحت «فاطمة رشدى» بطلة هذا المسرح ونجمة يُشار إليها بالبنان، فى شراء أثاث فاخر للفيلا التى يسكنان بها ليحولها إلى قصر ملكى منيف.
يقول الكاتب الصحفى الكبير «مصطفى أمين» إن «فاطمة رشدى» فى تلك المرحلة تركب عربتها الحنطور فى شارع «عماد الدين»، (شارع المسارح ودُور السينما فى ذلك الوقت)، فإذا بالطلبة يهجمون على العربة، ويفكون منها الحصانين، ويجرون العربة، وهم يهتفون بحياتها، حتى يوصلوها إلى باب مسرحها.
وكانت تُستقبل فى بيروت وتونس وبغداد ودمشق والمغرب استقبال الغزاة الفاتحين.. ولم تصل ممثلة إلى أن تكون صورها على جدران كل شارع فى الشرق الأوسط مثلها.. ولم تتمتع فنانة شابة بالأموال الضخمة التى أُلقيت تحت قدميها ولا بالمجوهرات الثمينة التى انهالت عليها، وأنفقت كل ذلك على الفن والمسرح.. وجاء يوم لم تستطع فيه أن تسدد إيجار بيتها، وباتت ليالى لا تذوق طعامًا لأنها كانت عاجزة عن دفع ثمن العشاء.
لقد عاشت الشهرة وعاشت النسيان.. وذاقت لذة الثروة الهائلة ومرارة الجوع والإفلاس.. وأقامت فى أفخر فنادق أوروبا فى الجناح الملكى.. ثم وجدت نفسها فى غرفة فوق السطوح.
فى رحلة تألقها استأجرت مسرح دار التمثيل العربى، واستطاعت بيد عزيز عيد الساحرة أن تخلق منه مسرحًا عظيمًا، وانتقلت من نجاح إلى نجاح.. وطاف تاجر القطن الذى كان يمولها بها عواصم أوروبا، وأقامت فى الجناح الملكى فى أهم فنادق العالم، إلى أن تزوجت المخرج كمال سليم، رائد الواقعية السينمائية، الذى أخرج لها فيلم «العزيمة»، ومات فجأة.. فهوَت من القمة إلى القاع.. رفضت أن تقبل أى دور لا يليق بكبرى ممثلات الشرق.. وأبَت أن تعمل مع أى مخرج لأنهم كلهم- من وجهة نظرها- أقل كثيرًا من أستاذها «عزيز عيد»، واضطرت إلى أن تترك منزلها فى القاهرة لأنها لا تستطيع أن تدفع الإيجار، وسافرت إلى السويس وأقامت فى بيت متواضع صغير تعيش فيه على ذكريات المجد العظيم.
لا يمكن إنكار قيمة فاطمة رشدى الفنية، فهى أول امرأة فى الشرق تؤلف فرقة مسرحية عظيمة، وتصل بها إلى كل بلد عربى فى الشرق والغرب، وتهتف الجماهير باسمها، وينظم أمير الشعراء «أحمد شوقى» مسرحياته الشعرية من أجلها.
تمر سنوات طويلة على اعتزال «فاطمة رشدى» الفن والحياة والناس، وتذوى فى غياهب النسيان والتجاهل والأفول والفقر والمرض والشيخوخة.. ويتدخل الفنان الكبير «فريد شوقى» لدى المسؤولين لعلاجها على نفقة الدولة وتوفير المسكن الملائم لها.. حتى أُفاجأ فى التسعينيات من القرن الماضى بالفنان «فريد شوقى» يتأبط ذراعها بيد ويسندها بيده الأخرى ويتحرك بها داخلًا إلى استوديو تصوير مسلسل «الشباب يعود يومًا»، الذى ألفت قصته وكتبت له السيناريو والحوار، ولعب بطولته وأنتجه الراحل الكبير. بوجه متغضن حفرت فيه السنون علامته المؤثرة، جاءت فاطمة رشدى.. عينان ذابلتان غائرتان زائغتان تحدق بهما فى الموجودين ذاهلة صامتة كأنها لا تراهم ولا تحس بوجودهم.. وبدَت فى مظهر يثير الشفقة والأسى ينعى تصاريف الزمان الغادر.. وقبل أن أتساءل عن سبب حضورها المفاجئ معه، أخبرنى أنه فكر فى أن يُشركها فى مشهد زواجه من «سناء جميل»، الذى تنتهى به الحلقات.. استنكرت ذلك لأنه لا مكان لها فى الأحداث.. وأى محاولة منى لـ«لَىّ» عنق الدراما من أجل تواجدها ستكون محاولة فاشلة ومتعسفة ومفتعلة.. وبعد شد وجذب طويل وإصرار منى على الرفض، تراجع الفنان الكبير عن رغبته، واستبعدها من المشاركة، واستكمل التصوير، وبقيت «سارة برنار» الشرق جالسة فى أحد الأركان صامتة.. مطرقة تحدق فى لا شىء.
نقلا عن المصرى اليوم