حمدي رزق
من محاسن الأستاذ «فريد الديب»، الله يرحمه، أريحيته وسعة صدره وتقبله النقد- (بالدال)- لا يفزع من التهجمات، ولا يلقى بالًا للاتهامات، دومًا لديه إجابات حصيفة.
عندما تحلقت شائعات الرحيل من حول فراشه، تحدثنا مليًا وقال: ضرورى تكلمنى، يا أخى ابقى حتى عزينى، وضحك من قلبه.. كان بشوشًا، يرد على هاتفه المفتوح ليل نهار.
فراق الأحباب سقام الألباب، الله يرحمه لم يبح بمعاناته التى استمرت طويلا إلا للمحبين، وواجه رحيل كريمته الكريمة الدكتورة إيمان بصبر الصابرين، أحزنه الفراق، كان يكابد أحزانه وهو فى صراع مع الخبيث، سرطان الدم «اللوكيميا».
كان يتألم فى صمت ويُظهر شجاعة نادرة فى العلن، ولم يأبه بشائعات عقورة تحدثت بموته، والموت زار داره، كان يواجهها بابتسامة تلون وجهه، لسان حاله: هما مستعجلين على إيه، إذا جاء أجلهم؟!.
آخر كلماته: سأظل مرتديا «روب المحاماة» حتى النَفَس الأخير.. حتى عندما حطّّ عليه خلق كثير بسبب اضطلاعه بنقض الحكم بالإعدام على قاتل المرحومة «نيرة أشرف»، عقّب فى مكالمة تليفونية: «معذورين، لم يفقهوا رسالة المحاماة، حتى القاتل من حقه محام يدافع عنه، وأنا أدافع عن تثبيت هذا الحق، عن تجسيد العدالة كونها حقا مستحقا، أنا أنقض حكما سطره قاض فى سياق ديالوج العدالة، لست بطالب شهرة ولا مال ولا أدافع عن قتلة».
رحيل الأستاذ فريد خسارة محققة لمهنة المحاماة، سبحان من له الدوام.. ستفتقد قاعات المحاكم صوتا عاقلا.. ستستوحش- من الوحشة- خطيبا بليغا من أساطين المرافعات.. مرافعات الأستاذ تدرّس فى كليات الحقوق، فى تثبيت الحقوق، ورسالة المحاماة التى ترقى فوق حسابات الرأى العام وتموجاته.
نموذج الأستاذ «فريد الديب» الله يرحمه يحتذى فى تجسيد معنى المحاماة ورسالتها التى لا تختلط بماء السياسة. أحد كبار النشطاء الحقوقيين قبل سنوات مضت طلب من الأستاذ تولى قضيته وكانت محط الأنظار محليا ودوليا، فكان سؤال الأستاذ: «سياسة ولا مهنة»، فقال المتهم: مهنة ولا مانع من بعض السياسة، قال الأستاذ فريد للناشطأ أنا محام ولست سياسيا، وطلب إعفاءه من ترؤس هيئة الدفاع.
مخلص لمهنته، ويحدثك دومًا عن الإخلاص فى الدفاع، لا ترتهن قضاياه بضغوط الرأى العام، يمارسها عن قناعة، ويبدع فى إيراد الدفوع، ومرافعاته فى مواجهة القضاة كانت نموذجًا من الأدب الرفيع.. موهبة فى كتابة المذكرات ومطالعة الحيثيات وخطاب المنصة العالية.
القضايا السياسية جلبت على الأستاذ فريد جلبة سياسية، ووفرت له شهرة عريضة، وصورته بالسيجار الكوبى الشهير كانت تميزه، يرسم صورة للمحامى الضليع من زمن الأبيض والأسود، بالغ الاحترام، مكتمل الهندام، مذاكر قضيته، معتقد فى سلامة موقف موكله مهما كانت قسوة الإدانات سارحة فى الفضاء.
كان الله يرحمه غير هياب، ولم يخشَ فى المحاماة لومة لائم، دافع عن متهمين كان الاقتراب منهم خسارة محققة لمحام لا يملك سوى سمعته، قضايا أقرب للحرام الوطنى، ولكنه كان قادرا على تحويل الخسارة إلى مكسب لمهنة المحاماة.
سألته ذات مرة: لماذا لا تترشح نقيبًا للمحامين؟، قاطعنى: «أنا محام وسأموت محاميا، وتكتب فى العنوان: رحل المحامى مرتديًا روب المحاماة».. وساد صمت ثقيل ترجمه الرحيل.. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
نقلا عن المصرى اليوم