عادل نعمان
وما أقصده أن الصراع بين فكر وفكر محسوم للأحدث، وبين جيل قديم وجيل جديد يُبَتُّ فيه للأخير، وبين فكر السلف وفكر الاستنارة يُحكم فيه للتنوير والحداثة يومًا ما، لا يغيب القطار عن موعده، ولا تتخلف الحضارة عن اللقاء، عصر الكفاءات والعلوم والخبرات والقدرات هو الأقدر على تسيير حركة الحياة وتطورها والانفراد بالحل، ولا حق فى الإجابة عن كل ما يشغل العقل ويفسر كافة الظواهر الطبيعية والإنسانية لغير هؤلاء، والإنسان الحديث أيضًا فى مواصفاته وثقافاته وقدراته وإمكانياته وكذلك التراكم المعرفى أكثر تطورًا من أسلافه، حتى من كان قريب التواصل معهم فى سنواته القليلة، سُنة الله فى خلقه وكونه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
الصراع بين السلفية، أنصار السلف، وأصحاب الفكر الحداثى، على أزمنته المتعاقبة، دائم ومتعاقب وقديم، الذين يرون قمة التطور البشرى وازدهاره قابعًا هناك وثابتًا عند الأزمنة الماضية، وأن الإنجازات العظيمة وقيم العدل والحرية والرخاء والتطور الاجتماعى قد حسمها رجال السلف والأوائل العظام حتى نهاية العمر، وأن الفضل كله فى اتباع السلف والنقصان كله فى البعد عنهم، الغريب أن هذا الفكر السلفى أصبح فكرًا تقليديًا مسيطرًا على كثير من عقول الكبار والصغار، والمسؤولين والعامة، وحتى بعض من العلماء فى الطب والهندسة على غرابة ما يحمل وما يفسر وما يشرح وما يُفتى، واستند كل هؤلاء إلى ما قاله السلف وفسروه على غرابته وتناقضه مع العلم الذى تعلموه، فلا أتصور طبيبًا حاصلًا على إجازة الطب ويعلم علم اليقين أن الحمل لا يزيد على تسعة أشهر وإلا مات الجنين فى بطن أمه وتصاب الأم بالتسمم، ومع ذلك يُقر مبدأ الفقهاء على حمل المرأة ثلاث سنوات أو أربعًا أو خمس سنوات، وفقًا لرأى الفقهاء، ويدافع عن هذه الآراء، وينسى الطب وما درسه وما استقر عليه حمل النساء من يوم أن خلق الله الأرض حتى نهاية الكون، أو هذا الذى يعيش فى بلاد المهجر فى أمن وسلام ودعة ورغد من العيش، ويحمل فكرًا جهاديًا على من أمّنوه من خوف وجوع وفتحوا له أبواب النعيم والراحة، وكان نتاج هذا الفكر السلفى هذا الجهل العام الذى تتساوى فيه النخبة مع العامة، والجهلاء والمتعلمين.
ولا عجب عندئذ أن يكون البسطاء والعامة ضحايا لهؤلاء السلفيين، فإن الحرمان وخيبة الأمل وانقطاع المبتغى والرجاء فى الدنيا جعل تصديق العامة للخرافات والأساطير مطلوبًا ومباحًا، والانقياد عندهم مسموح ومضمون ومكفول حيث يشاء السلفيون، بعد أن لوحوا لهم بأحلام وأمانى ووعود لا يملكونها هم وأسلافهم، وطيبوا خاطرهم وفتحوا أبواب الأمل والنجاة ونعيم قد حُرموا منه فى الدنيا فباتوا يحلمون بهذا فى النهار قبل الليل، فكيف بالله عليك يستجيب العامة للكد بديلًا عن التكاسل، والعمل دون التهاون، والعلم على حساب الراحة، إذا كان مصير الجميع إلى الجنة وإن زنوا وإن سرقوا؟ وليست قيادة هذه الجماهير المضللة نجاحًا للسلفية، لكنهم ما سيطروا على العامة إلا بجهالة وضعف النفس البشرية، وقد كانت مهمة الدين ورجاله أولًا رفع الجهل عنهم، والارتقاء بالنفس وعلو هامتها ثانيًا، فهى صورة الله فى النفس البشرية.
ولا أتصور أن يغيب عن عاقل أو غير عاقل أن التقدم العلمى والتطور الإنسانى والتقدم الاقتصادى والثقافى والعلمى والانضباط المجتمعى فى الدول الناجحة لا يرتكز على العقيدة، ولا يستند على دين من الأديان، ولا يقتفى أثر تراث، ولا ينتظر فتوى فقيه أو عالِم من هؤلاء يرسم له طريق النجاح ويدعو له بالتوفيق والفلاح، إلا أن أسس النجاح مادية بحتة ونظريات ومناهج علمية ومدارس فى التنفيذ والعمل والمثابرة والجهد، وهو منهج قد قررته هذه الدول منذ قرون حين تم الفصل بين رجال الدين والسياسة والحكم، والأمثلة على ذلك كثيرة فى الشرق والغرب، اليابان والصين، تقابلهما باكستان وأفغانستان، وأينما تولى وجهك عزيزى ستجد المثال حيًا واضحًا، لا تقدم أو ازدهار إلا بالعلم واستبعاد الخرافات والأساطير عن مجالات العمل، هذه الحقيقة الدامغة كيف تغيب عن الأذهان هنا فى بلادنا؟
ليس فى ذهننا أن ندعو الناس إلى ترك دينهم، إلا أننا ندعو الناس إلى التدبر وإعمال العقل، والوصول إلى المقاصد والأهداف والمضمون الحقيقى للأديان جميعها، وليس هذا المضمون إلا للخير والسلام والمحبة للبشر جميعًا، هكذا يجب أن تكون، والانتباه جيدًا إلى هذه المساحة الشاسعة والفرشة العريضة لرجال الدين فى حياتنا، والتى تزيد وتزحف كل يوم من كل اتجاه حتى قيدت حرية الناس وأصبحت عبئًا عليهم، تُثقل كاهلهم وتكبل أقدامهم وتحد من الانطلاق وتقيد حرية الفكر والإبداع، وتجعلهم أسرى حكايات ومرويات لا تمت للواقع بصلة، ولا يُفلحان معًا، وأصبح لزامًا على الجميع العمل على تقليصها على أن يحل محلها التفكير العلمى والمنهج العقلى.
«الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم