محمد عبد المجيد
حتى لو حاولوا كسب شعبية لهم بقولهم إن شادية تابت عن الفن الآثم، فأنا سأظل أستمتع بأغانيها ورقتها وصوتها وأفلامها.
حتى لو تابت مئة مرة في اليوم فقد تركت لي ( تعالي أقول لك) و( يا حبيبتي يا مصر ) ..
وحتى لو هلل المزايدون لتوبتها فسأبتهج لسماع ( غني لي لحن الوفاء ) مع حليم ولحن السنباطي، و( يا مسافر بورسعيد) و ( وإن راح منك يا عين حيروح من قلبي فين ).
شاهدتها في ( وطني حبيبي الوطن الأكبر ) وهي تشدو للمشروع القومي الكبير والمنكسر، فسقطت دمعتان على وجهي.
حتى لو تابت عن الإثم(!) في ( صوت الجماهير ) و ( والجيل الصاعد ) و ( قولوا لمصر ) فلا اكترث لوداعها الفن ولن أعيد إليها كنوزها.
وحتى لو تبرأت من ( الدرس انتهى لموا الكراريس) لصلاح جاهين وهي تضرب بأوتار صوتها على رأس الضمير العالمي حزنا على أطفال مدرسة بحر البقر، فأنا لا أستطيع أن أسترد دموعي عن أطفالنا في الفن الآثم(!) من أجل عيون الشيخ الشعراوي، رحمه الله
وشادية لا تعتذر عن ( والله يا زمن ) ثم إنها طبعت كل قصة حب في ( مين قالك تسكن في حارتنا، تشغلنا وتقل راحتنا ).
مئة فيلم وخمسمئة أغنية أكثرها التصقت بذكريات كل واحد منا، وإذا كانوا قد أقنعوها أن الفن حرام، والنغم يغضب الله، والموسيقى معزوفات الشيطان، فستطربني (دليلة)، وأضحك لــ ( ريا وسكينة ) حتى في دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا .. ونبني طوبة طوبة في عش حبنا!
لا أتحدث عن نفسي ولكن عن عشرات الملايين من الذين تعطرت طفولتهم وشبابهم بصوتها.
توبتها، وفقا لأدبيات الجماعة، تنشرح لها الحياة الجديدة التي جعلت أقصى متعة في استغماية النقاب للمرأة، لكنني لستُ مسؤولا عن حياتها الخاصة.
لا يمكن أن يعزف لك شخص كونسرتو مبهجا للحياة ؛ فإذا تمايلتَ غبطة يطلب منك قضاء بقية السهرة في المقابر.
كان هذا خيارها الذي يجب أن نحترمه، لكن ليس من حقها أن تسترد ما أعطتنا إياه.
رحلت شادية ولم يعد هناك من يقول: آلو .. آلو، إحنا هنا، ونجحنا أهو في المدرسة!
غادرتنا شادية بعد أن ( حبينا بعضنا، وبُحنا بسرنا، عقبالكو زينا، ونبقىَ كلنا في الهوىَ سوا)!
سيفتقدها كل مهاجر قبل السفر وهو يسمع صوت أمه وحببيته وخطيبته وجارته وزوجته ( خلاص مسافر.. خايفة لما تسافر على البلد الغريب، تنسىَ إنك فايت في بلدك حبيب).
سيظل شباكها ستايره حرير، وستتذكرها كل حبيبة وتردد ( يا نور عنيه وأكتر وأكتر شوية، يا أغلىَ عندي مــ الدنيا ديه)، ويفتقدها كل حسن .. خولي الجنينة.
الخمسون عاما الأولى من حياتها ملكية خاصة لجماهيرها، وكنز لذكرياتهم، وإرث من الزمن الجميل ( احتار خيالي، مع الليالي )، فصاحبة الصوت الملائكي كانت خيوط حنجرتها معطرة؛ فإذا تنفستْ أمامك على الشاشة الصغيرة أو الفضية فقد عشقتها.
أما سنوات الاعتزال والعزلة فقد تركناها لها، تستعيد ذكرياتها، وتنعم بهدوء بيتي لا يزورها فيه إلا الأصدقاء و.. الأطباء.
خوفي على شادية من الإعلاميين المصريين الذين لم يستوعبوا تاريخها، وجمال صوتها، ورقة طباعها، وعبقرية فنها، وسحرا بتسامتها، فإذا تحدثوا عنها فقد جرحوا صورتها الجميلة في أذهاننا.
أحب كثيرا أوبريت لحن الوفاء الذي عبــْـقـَـرَ فيه السنباطي الدويتو الرائع فجاء أشبه ب( ليالي الأنس في فيينا ) لأسمهان.
ولا أشبع من سماع دويتو ( احتار خيالي ) مع العندليب الأسمر.
شادية جعلتنا نحب اللونين الأبيض والأسود وكأنهما كل الألوان، رغم ( دليلة) و ( معبودة الجماهير ).
ممثلة قديرة فــ ( لا تسألني من أنا)، وهي ( المرأة المجهولة )، وهي كل قصة حب بين اثنين في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.
رسمت بشفتيها الجميلتين زمنا جميلا لكل عاشقي الفن السابع، وجعلت أغنياتها رسائل حب يسمعها كل من غاب عنه صوت حبيبه.
رحمها الله، وأسكنها فسيح جناته.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج