عاطف بشاي
تعجبت كثيرًا متسائلًا فى حيرة ودهشة عن سر هجرة بعض صفوة كُتابنا الكبار عن الاستمرار فى الإنجازات الإبداعية البراقة، التى برزت فى بداياتهم اللامعة والمبهرة فى عالم الأدب، واتجاههم إلى مجالات أخرى مثل الكتابة الصحفية السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية أو الدينية.. أو الإعداد الإذاعى أو السيناريوهات السينمائية والتليفزيونية.. لعل من أهمهم- من وجهة نظرى- الكاتب الكبير «أحمد بهجت» ومايسترو الصحافة، الأستاذ القدير «صلاح حافظ».. وبحثت عن هذه التحولات عن تلك البدايات الرائعة، التى تَشِى بموهبة بازغة وبراعة لافتة وتقدير واحتفاء جمّ من نقاد مرموقين.. ولم أقتنع بتصريحات أحمد بهجت.. المُوشّاة بتواضعه المفرط بقوله إن المجموعات القصصية التى كتبها فى أول طريقه الأدبى كانت مجرد محاولات.. لا ترتقى إلى مستوى أن يعتبر نفسه كاتبًا قصصيًّا.. كما لم تشفع عندى اعترافات «صلاح حافظ» بأن مهنة الصحافة، التى هى مهنة المتاعب والهموم والمعاناة اليومية الصعبة، تسرق العمر وتبتلع الوقت وتصرف عشاق الفن والأدب عن مواهبهم الآسرة.
بزغت موهبة «أحمد بهجت» (1932- 2011) فى بداية مشواره الإبداعى فى مجموعة قصصية بديعة، هى «ثانية واحدة من الحب»، التى يعترف فى مقدمة الكتاب الذى يضمها بأنه إذا كانت الصحافة هى زوجته الصارمة التى تتحكم فى وقته.. فإن القصة القصيرة هى حبه الأول.. ويؤكد عند صدور هذه المجموعة القصصية أنه دخل الصحافة من باب القصة القصيرة.. ولكن ما كتبه أُلقى فى سلة المهملات، واكتشف الرؤساء أن هذا المجنون الذى يتصور أنه كاتب قصة هو خامة تصلح للصحافة.. ومن هنا فقد استسلم لغوايتها.. ومن ثَمَّ فهو يؤكد أنه ليس لديه وقت لدراسة أحوال أبطال قصصه والحديث عن سماتهم أو عوالمهم أو مصائرهم أو الرموز التى يشيرون إليها.. وفى سخرية، لا تخلو من مرارة واضحة، ممزوجة بمفارقة كوميدية، يلاحظ أن معظم أبطال قصصه يشتركون معًا فى إحباط هائل ومضحك فى نفس الوقت.. فهم محبطون يجهلون أنهم محبطون.. وتعساء يجهلون أنهم تعساء.. يعيش معظمهم فى بؤس إنسانى غامض لا يعرفون عنه شيئًا.. وحظهم فى الحب هو رؤيته فى قاع الأحلام البعيدة.. لقد قُتلوا مرتين.. مرة بالشقاء الإنسانى.. ومرة ثانية بجهل الحقيقة.
وفى استسلامه لغواية الصحافة، انتهى به المطاف إلى مؤسسة الأهرام العريقة (1958)، وأصبح أحد رموزها وكُتابها المرموقين.. وكان بابه اليومى «صندوق الدنيا» الشهير يمزج فيه بين البلاغة الأدبية الآسرة والرؤية الفكرية الرصينة والسخرية اللاذعة.
ثم غرق «أحمد بهجت» فى بحور الصوفية، ونهل من منابعها الروحية، واستلهم من روادها الكبار، «جلال الدين الرومى» و«التبريزى» و«ابن الفارض»، عصير الحكمة.. وبيان وبديع الشعر الشفاف.. وخلاصة الأفكار السامية، المُحلِّقة فى رحاب الفلسفة الدينية وعمقها وعذوبة التعبير الرقيق وبلاغة السرد الجميل.
وتوالت المؤلفات البديعة «أنبياء الله» و«الحيوانات فى القرآن» و«أحسن القصص» و«الطريق إلى الله» و«بحار الحب عند الصوفية» و«صائمون والله أعلم» و«تأملات فى عذوبة الكون» و«الله فى العقيدة الإسلامية» و«هدهد سليمان» و«مذكرات صائم».. وغيرها.. ووُصف من خلالها بأنه يملك لسانًا ساخرًا وقلبًا عاشقًا وعقلًا فيلسوفًا.. ورغم عظمة وقيمة هذه المؤلفات وتأثيرها العميق فى عقول وقلوب القراء وحفاوة النقاد الكبار بها وبراعة مؤلفها فى السبك والحبك فى شاعرية أخاذة ورومانسية روحية سامية، فإنى ظللت مشدودًا ومشدوهًا حتى الآن بإعادة قراءة المجموعة القصصية والرائعة «ثانية واحدة من الحب»، التى كتبها فى بداية مشواره الخصب.. جذبتنى بشدة قصة قصيرة منها بعنوان: «انزلى يا تفيدة.. اطلع يا سيد»، التى تتميز بمفارقة كوميدية ساخرة، لكنها تتجاوز البعد الاجتماعى إلى بعد فلسفى يتناول عبث الوجود ولغز الحياة والموت.. يتلخص محتواها فى موقف «سيد الغندور»، وهو موظف بسيط.. ذات يوم عند عودته من عمله يشاهد حركة غير مألوفة حول العمارة التى يسكن بها بحى شعبى، ويعلم أن لجنة من مهندسى البلدية يعاينون المسكن، مقررين أنه آيل للسقوط.. يخفى الخبر عن زوجته «تفيدة» إشفاقًا عليها من الجزع، الذى قد يُخرجها عن طورها.. فربما خرجت من الشقة، حافية، صارخة، ولكنه حينما يضطر إلى إخبارها يفاجأ بها تردد فى برود: «مانا عارفة ان البيت حيقع.. فى جواب جه من البلدية بضرورة إخلاء المسكن».. يهتف بدهشة بالغة: «غريبة.. إنتى مش خايفة ولا مهتمة؟!»، تبادره بهدوء: «لو خفت حاعمل إيه؟.. يقع زى ما يقع. ماحنا مش ماشيين من هنا إلا على التربة..»، يصرخ فيها: «إزاى تخبى علىَّ خبر زى ده يهدد حياتى.. إنتى عاوزة تموتينى؟»، تردد ضاحكة: «الموت حق».. ثم ما يلبث أن ينتبه إلى صوت طقطقة غريبة، فيصيح فى رعب: «البيت حيقع».. تبادره تفيدة مطمئنة: «ماتخافش يا سيد انا بادوّر على شبشبى.. وده صوت رجلى وهى بتدوّر..».
لكن سيد، فى ذعر بالغ، يقفز مهرولًا خارجًا من الشقة، حافيًا، بجلبابه المنزلى، إلى الشارع.. تطل عليه تفيدة من البلكونة.. يصيح مناديًا: «إنزلى يا (تفيدة)».. ترد عليه: «اطلع يا (سيد)».. يكرر صياحه: «انزلى يا (تفيدة)».
ويستمر الحوار على هذا الحال.. لا تفيدة نزلت، ولا سيد طلع، ولا البيت وقع، ولا الحوار توقف.
نقلا عن المصرى اليوم