سمير مرقص
(1) «البرازيل: قرون من النضال»
شرحنا فى مقالنا الأول بإيجاز المسار التاريخى الصعب الذى خاضته البرازيل منذ القرن الخامس عشر حيث تعرضت أولًا: لاستعمار استيطانى ممتد. وثانيًا: لهيمنة أمريكية باعتبارها جزءًا من «الفناء الخلفى» للولايات المتحدة الأمريكية وفقًا «لمبدأ مونرو» وسياسة «العصا الغليظة الروزفلتية». وثالثًا: لنظام حكم استبدادى- ممتدـ تعاقب عليه حكام عدة فى الفترة من مطلع الستينيات إلى نهاية الثمانينيات (حكم برانكو، وسيلفا، وميديشى، وجيزيل، وفيجويريدو، وسارنى، و...). لم يكن البرازيليون خانعين خلال هذا التاريخ الصعب بل ناضلوا من أجل الحرية والاستقلال والديمقراطية وهو ما أثمر وضع دستور للبلاد عام 1988 الذى فتح المجال لعملية تحول كبرى- مميزة- فى البرازيل، أو بحسب العالم الاجتماعى الكبير وأحد المنظرين الكبار لنظرية التبعية «كاردوسو» (91 عامًا): «النموذج السياسى البرازيلى» Brazilian Political Model؛ وقد أتيح لـ«كاردوسو» أن يدير البلاد خلال الفترة من 1995 إلى 2002، عقب مرحلة الانتقال التاريخية للبرازيل وأن ينقلها نقلة نوعية مثلت قاعدة صلبة لانطلاقة «لولا دا سيلفا» بالبرازيل على مدى عقد من الزمان من 2002 إلى 2011 أى لفترتين رئاسيتين.

(2) «تجربة لولا فى الحكم»
جاء «لولا» إلى سدة الحكم من خلال قيادته حزب العمال الذى أسسه فى 1980 أى أنه خاض تجربة نضالية ممتدة على مدى أكثر من عقدين من الزمان حتى يتمكن هو وحزبه من حكم البرازيل، حيث حظى بنسبة تتجاوز الـ60% فى المرتين المتواصلتين اللتين حكم فيهما البرازيل. استطاع أن يُنجز متوسط معدل نمو سنوى لإجمالى الناتج المحلى تجاوز الـ10% خلال العقد الأول من القرن الحالى. كما استطاعت البرازيل تمويل استثمارات صناعية وتكنولوجية ضخمة. وتوقع صندوق النقد الدولى أن يبلغ إجمالى الناتج المحلى للبرازيل ما يقرب من 3268 مليار دولار فى العام 2017. وتراجع من هم تحت خط الفقر من 20% إلى 6% حيث استطاع «لولا» أن ينقل 30 مليون مواطن من براثن الفقر خلال فترة حكم حزبه. وبالرغم من الأخذ باقتصاد السوق فإن العدالة الاجتماعية كانت موضع عناية شديدة كذلك السياسة الضريبية وتفعيل قانون مكافحة الاحتكارات...إلخ؛ ما جعل البرازيل القوة الاقتصادية الأولى فى القارة اللاتينية، إضافة إلى تصدير السوفت وير والانخراط الجوهرى فى مشروع جينوم الوراثى... وبعد أن انتهت فترتا رئاسة «لولا» رفض تعديل الدستور لتجديد رئاسته لفترة ثالثة وجاءت بعده المتخصصة فى الاقتصاد والمناضلة العتيدة «ديلما روسيف» (75 عاما التى كانت تشغل منصب وزيرة وقت «لولا») لتصبح رئيسة للبرازيل فى يناير 2011 وواصلت التزامها بما أسسه «كاردوسو» ونفذه «لولا» حتى أتت «الضربة الإجهاضية» فى 2013.

(3) «الضربة الإجهاضية ومستقبل الصراع فى البرازيل»
تشير دراسة حديثة حول الاقتصاد البرازيلى فى فترة «ديلما» الرئاسية والتى استمرت لأربع سنوات إلى أنه اقتصاد: «صعب ومعقد، حيث يسجل مؤشرات تتراوح بين المتميز والعادى والمقلق». فمن جهة، تمكنت البرازيل من أن تنجز تحديثًا فى كثير من القطاعات الحيوية، ومن جهة أخرى لم تستطع أن تفك ارتباطها بالتمام مع المراكز الرأسمالية، وبالرغم من الوعى والانحياز للفقراء وللعدالة الاجتماعية فى ظل اقتصاد ليبرالى فإن «ضربة إجهاضية» وجهت للنموذج البرازيلى من قبل قوى الليبرالية الجديدة فى الداخل البرازيلى والمرتبطة بمثيلتها فى الخارج الإقليمى خاصة الأمريكى بواسطة رأس المال الأجنبى الكثيف فى: المحفظة الاستثمارية وتفريعاتها المالية، والخصخصة... إلخ، ومن ثم اختراق الكثير من القطاعات الحيوية والمهمة مثل: الخدمات، والصناعة، والزراعة والمواشى، واستخراج المعادن، والتأمين، والرعاية الصحية...إلخ؛ ما أثر تأثيرًا كبيرًا على الطبقات الفقيرة والوسطى العريضة والتى تعتبر القاعدة الاجتماعية لحزب العمال الحاكم. وكان جزءا من الضربة الإجهاضية هو توجيه تهم بالفساد لكل من «لولا» و«ديلما» كان من نتيجتها الحكم على «لولا» بالسجن ولكن القضاء أخلى سبيله ليعاود النضال ويتحقق له الفوز فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة وأن يعود للحياة بالرغم من محاولة دفنه حيًّا من قبل الليبراليين الجدد، ويبدو لى أن تجربة إنجاز تنمية مستقلة وفى نفس الوقت مرتبطة بالمراكز الرأسمالية بدرجة مُفرطة سوف تمثل تحديًا للنموذج التنموى البرازيلى وصراعًا بين القوى الاجتماعية الدنيا والوسطى وبين النخبة السوقية؛ ما يعنى أن التوافق الذى تم فى دستور 1988 بين العدالة الاجتماعية والاقتصاد الحر قد بات محل صراع.
نقلا عن المصرى اليوم