د.ماجد عزت إسرائيل
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هذه الأيام بمرور عقد من الزمن على حبرية صاحب القداسة البابا تواضروس الثانى،البطريرك الــ 118 فى تاريخ باباوات الكنيسة؛والبطريرك هو خليفة السيد المسيح ورسله، واِسْمُهُ مأخوذ من مفهوم الأبوة، فمعناه الأب الأول، ولذلك هو المسئول عن كل شىء، ذلك أن رئيس المطارنة والأساقفة، يبارك ولا يبارك عليه، ولا يتعالى، ومسئول عن إقامة الشعائر الدينية، وانعقاد المجمع المقدس، وصناعة الميرون(الزيت المقدس)، ونشر الكرازة المرقسية، وترميم وبناء الكنائس والأديرة، ورعاية الأقباط في بلاد المهجر، والإشراف العام على أملاك الكنائس والأديرة والنظر في أحوالها. ومقره الرئيسي الدار البطريركية.
فقداسة البابا تواضروس الثانى رئيس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تلك الكنيسة العريقة التي تعد من أقدم المؤسسات في مصر والعالم،وذات تراث عريق، يميزها-على مر العصور-بمسحة ديمقراطية لا تخلو منها عملية صنع القرار، لدرجة أن الدكتور طه حسين وصفها قائلاً:«الكنيسة القبطية مجد مصرى قديم ومقوم من مقومات الوطن المصرى، فلابد من أن يكون مجدها الحديث ملائماً لمجدها القديم...». وأيضًا وصفها البابا تواضروس الثانى «بأنها فريدة بين كنائس العالم، فهي أقدم كيان شعبي على أرض مصر، وإن جذورها مصرية وعاشت تخدم الوطن طوال تاريخها، وأكد أن الكنيسة لا تلعب دورًا سياسيًّا أبدًا، وأوضح أنه حتى لقاءات وتعاملات الكنيسة مع السياسيين تكون على أرضية وطنية». فعبر تاريخها العريق شاركت الكنيسة في مقاومة الاحتلال اليونانى، والرومانى، والعثمانى، والفرنسى، والبريطانى، وأيضًا شاركت في بناء الدولة الحديثة في عهد محمد علي باشا(1805-1848)، وكذلك في ثورة 1919، وثورة 1952، وثورة 25 يناير2011، وثورة 30 يونية 2013، وساهمت في صياغة الدساتير، ووقفت وشارك أبنائها في حروب مصر ضد العدوان الإسرائيلي في أعوام 1948، 1967، 1973 حتى عادت سيناء للأراضي المصرية.
على أية حال، تزامن خلو الكرسي المرقسي بنياحة قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك الــ 117(14 نوفمبر 1971-17 مارس 2012) مع التحولات الجارية في مصر عقب أحداث ثورة 25 يناير2011 والتي كان من أبرزها؛ موقف السلطة، والنخب السياسية، والفئات الاجتماعية المصرية، والمواقف الدولية. وفي ذات اللحظة كانت الكنيسة مشغولة بأمور نذكر منها صلاة جناز البابا شنودة وطقوسه الكنسية، واِختيار قائمقام البطريرك، ولائحة اِختيار البطريرك، ولجنة الانتخابات البطريركية التي توصلت في 4 نوفمبر2012 إلى اِختيار البابا تواضروس الثانى بطريركاً ليصبح البطريرك الـ 118، ومن الطريف أن هذا اليوم يوافق يوم عيد ميلاده. وفي 18 نوفمبر 2012، تم تجليسه على كرسى مار مرقس - أدام الله حياته. وعلى صعيد آخر تسلمت جماعة الإخوان المسلمين الحكم في مصر في (24 يونيو 2012)، فصدق محمد مرسي بصفته رئيس جمهورية مصر العربية على قرار رقم (355 لسنة 2012م) ونصه: "يعين الأنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية".
ومن الجدير بالذكر، أن قداسة البابا تواضروس الثاني تقابل مع الرئيس محمد مرسي بعد توقيعه قرار تجليسه، وكانت جماعته تقوم بالتودد الظاهري للكنيسة، وتتجاهل شكاواهم ومخاوفهم، بدليل الأزمات والكوارث، التي تعرض لها الأقباط في حادثة قصر الإتحادية في 5 ديسمبر2012، وحادثة الخصوص في أبريل 2013، والإعتداء على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية لأول مرة في التاريخ الحديث والمعاصر في 7 أبريل 2013، وتعرض الأقباط للظلم والاضطهاد بتلفيق التهم والتعذيب، وإضطرارهم للهجرة خارج البلاد، وانتشار الفتن الطائفية في شتى أنحاء البلاد.
وفى وسط الآلام كانت رؤية قداسة البابا تواضروس الثاني والدار البطريركية إن أعمدة المجتمع المصري هي مؤسسات: الجيش، والشرطة، والقضاء، والأزهر، والكنيسة، فضلا عن المؤسسات الثقافية والاقتصادية. فمع ظهور حركة «تمرد» انضم إليها ملايين من المصريين بشتى طوائفهم، وتفاعلت الكنيسة المصرية جنبا إلى جنب مع الأزهر الشريف والقوات المسلحة والشعب، ضد حكم الإخوان خلال ثورة (30 يونيو2013). وقد شارك البابا تواضروس الثاني، والدكتور أحمد الطيب؛ في بيان(3 يوليو2013) الذي أعلنه المشير "عبد الفتاح السيسي" وزير الدفاع آنذاك بعزل الرئيس محمد مرسي، وتعطيل العمل بدستور 2012م، وتسليم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار "عدلي منصور"، ووضع ما يعرف بخارطة الطريق. وكان رد فعل الإخوان الإرهابيون على أقباط مصر هو حرق كنائسهم ونهب ممتلكاتهم وقتلهم، وفي إطار ذلك صك قداسة البابا عبارته الخالدة التى تناقلتها الألسن تقول «وطن بلا كنائس، أفضل من كنائس بلا وطن» مؤكداً بها وحدة عنصري الأمة المصرية. ولموقفه الوطني هذا تعرض البابا إلى ما لم يتعرض له أي من باباوات القرن الماضى لدرجة محاولة اغتياله، ووضع أمامه الكثير من الصعوبات. وقد أكد على ذلك المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية السابق، عندما وصف قداسته قائلاً: «البابا شخصية وطنية، جذورها ضاربة في أعماق الأرض المصرية، وأنه رغم ما واجهه من صعاب، كان رجلا رابط الجأش، لا تهزه العواصف والنوائب مهما عظمت».
ومن خلال عقد من الزمن مضى على حبرية البابا تواضروس الثاني ارتبطت الكنيسة القبطية بمؤسسة الرئاسة المصرية بعلاقات يسودها المحبة والتآخي، فقد ارتبط قداسته، بالرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ أن اختير وزيرا للدفاع وحتى انتخابه رئيسا للجمهورية، ونمت وتطورت هذه العلاقات في ظل التعامل بين الكنيسة والجمهورية الجديدة من أجل خدمة الوطن. فزيارات البابا الرعوية إلى أوروبا ومعظم بلدان العالم كانت من أجل الوطن؛ وهذا هو دور الكنيسة الوطني أليس كذلك؟ ففي مقابلاته مع بابا الفاتيكان أو رؤساء دول وسط أوروبا وغيرهم، وضح أوضاع مصر الحقيقية لإزالة اللبس الذي اكتنف هذه الفترة وخاصة بعد أن انخدع الأوروبيين في تنظيم الإخوان المسلمون. وفي ذات الوقت لم تنسى الكنيسة القبطية موقف الجيش من ذبح سبعة من أقباط مصر في مدينة بنغازى بليبيا في(25 فبراير 2014) حينما صدَّق المشير عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع والإنتاج الحربي فى 26 فبراير 2014 على قرار تخصيص طائرة عسكرية لنقل جثامين المصريين ضحايا المذبحة إلى مسقط رأسهم بمحافظة سوهاج. وأيضًا في 15 فبراير2021 عندما بث تنظيم داعش فيديو لمقتل 21 قبطيًا بليبيا، فأعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمة طارئة قائلاً:" أنه حان الوقت للتعامل مع الإرهاب بدون أي ازدواجية في المعايير مشيرا إلى أن مصر تمتلك حق الرد على داعش". وفي صباح 16 فبراير 2015 قامت القوات المسلحة المصرية بالرد بتوجيه ضربة جوية مركزة ضد معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر تنظيم داعش الإرهابى بالأراضى الليبية.
والحقيقة التاريخية أن الكنيسة القبطية لمواقفها الوطنية تعرضت لسلسلة من الاعتداءات الداخلية خلال عقد من حبرية قداسة البابا تواضروس الثاني نذكر منها على سبيل المثال، تفجير الكنيسة البطرسية بالقاهرة في يوم 11 ديسمبر2016، حيث قُتل على إثره (29) شخصاً وأصيب (49) آخرون. وفي (9 أبريل2017) وفي أثناء صلاة القداس الإلهي واحتفال الأقباط بأحد الزعف (الشعانين) تم تفجير كنيستي مار جرجس في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وفي ذات اللحظة تفجير كنيسة مار مرقس بمحافظة الإسكندرية. وقد تبنى تنظيم داعش العمليتين الإرهابيتين، فيما تخطت حصيلة الضحايا 160 شخصًا. وفي(26 مايو 2017) حدث هجوم على الطريق الصحراوي الغربي. استهدف عشرات الأقباط كانوا يستقلون حافلة في طريقهم إلى دير الأنبا صموئيل المعترف بمدينة مغاغة بمحافظة المنيا. وبلغت حصيلة الضحايا مقتل 29 شخصاً وإصابة 24 آخرون. وفي (2 نوفمبر2018) حدث هجوم إرهابي بالأسلحة النارية للمرة الثانية على أقباط كانوا يستقلون حافلة وهم في طريقهم إلى دير الأنبا صموئيل المعترف، وأسفر الهجوم عن مقتل 7 وإصابة 18 آخرون. وقامت الدولة بالرد على هذه الاعتداءات في 4 نوفمبر2018 بتصفية (19) إرهابيًا من منفذى هذه العمليات الإرهابية.
وفي خلال عقد من الزمن مضى على حبرية البابا تواضروس الثاني، كانت هناك العديد من المواقف التي جمعت ما بين الجمهورية الجديدة والكنيسة حيث قامت الدولة بإعادة بناء الكنائس التي تم حرقها وهدمها، وكذلك تتبع الإرهابيين ومحاكمتهم في كل جرائم تفجيرات الكنائس أو قتل رجال الدين الأقباط. وفي الجمهورية الجديدة تم إلغاء الخط الهمايونى العثماني، وصدر القانون رقم 80 لسنة 2016 بشأن بناء وترميم الكنائس. وأيضًا طالب الرئيس السيسي رئيس حكومته ووزير الإسكان والتعمير بضرورة بناء كنيسة بكل مدينة جديدة يتم بنائها. وأكبر دليل على ذلك تشييد كاتدرائية المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة وهي أكبر كاتدرائية في مصر والشرق الأوسط. وقد افتتحها الرئيس عبد الفتاح السيسي والدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الإزهر وصاحب القداسة البابا تواضروس الثاني في(6 يناير 2019). وفي ذات اليوم وبذات المدينة تم افتتاح مسجد الفتاح العليم. وقد زاد عدد الأقباط في البرلمان فى انتخابات برلمان 2015 فبلغ (39) مقعداً، من أصل(568) مقعدا برلمانيا. وبهذا العدد سجل الأقباط أكثر المقاعد عبر تاريخهم بالبرلمان المصري. وفي برلمان 2020 بلغ عددهم 37عضواً. كما تم تعيين (7) أعضاء بمجلس الشيوخ من أصل 100 عضواً معينين في أكتوبر(2020). وأيضًا اشتملت حركة المحافظين في أغسطس 2018 على تعيين قبطيين في منصب المحافظ. والخلاصة..أن العلاقة ما بين الكنيسة والدولة شهدت تغيرات جذرية في هذا العقد في جوانب متعددة بصورة لم تشهده البلاد من قبل في تاريخها المعاصر،وخاصة في ظل حبرية قداسة البابا تواضروس الثانى، وذلك بالتزامن مع تولي عبد الفتاح السيسي حكم مصر، وهذا ما نتمناه.
ومن أهم أعمال قداسة البابا تواضروس الثاني خلال عقد من حبريته فعقب توليه الدار البطريركية قام بتنظيم إدارة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتشكيل مركز أعلامي لها، وإعادة تشكيل المجمع المقدس، الذي حدد جلساته على أساس مرتين في العام: الأولى قبل صوم الميلاد، والثانية قبل صوم الآباء الرسل. وقام قداسته برسامة العديد من الآباء الكهنة والأساقفة، وتجليس بعضهم على الأبرشيات والأديرة في داخل مصر وخارجها، وأيضًا قام برحلات رعوية إلى بعض دول العالم منها النمسا وألمانيا والفاتيكان، وأيضًا في حبريته صدرت لائحة للآباء الكهنة في عام 2013، وتم تعديل لائحة اختيار بطريرك الكنيسة القبطية بقرار رقم (144) لسنة 2015، واهتم البابا بالطفولة وابدى رغبته فى إنشاء أسقفية خاصة بهم، وقام في 2015 بافتتاح قناة تلفزيونية للأطفال تحمل اسم (كوجي). وكذلك صدر في عهده قانون بناء وترميم الكنائس في عام 2016. وساهم قداسته في أعمال بعض المجامع المسكونية، وأيضًا عمل الميرون ثلاث مرات في أبريل 2014، وأبريل 2017، ومارس2021.
والخلاصة....ونحن نحتفل بعيد ميلاد صاحب القداسة البابا تواضروس الثاني في 4 نوفمبر 2022 وبلوغه الـ 70 عامًا وأيضًا مرور عقد على حبريته لا نبالغ في القول أن قداسته شخصية وطنية، جذورها ضاربة في أعماق الأرض المصرية، وأعماله وأقواله ستبقى خالدة عبر صفحات التاريح الحديث والمعاصر؛ فبحكمته واجهت الكنيسة حوادث الإرهاب والاستهداف الممنهج من جانب جماعة الإخوان وأنصارها، وأيَضا ردت على محاولات الفتنة والوقيعة بين المصريين، وكذلك واجهت حملات التشويه المتعمد ضد مصر في الإعلام الغربي. وفي إطار ذلك صك قداسته أقواله الخالدة «مصر في قلب الله بينما العالم في يده». كما أكد قداسته على ضرورة المحبة التي دونها بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس «اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا...." (1 كو 13: 8). فالمحبة عنده أصبحت شعاراً لخدمته وعمله، وأيضًا الحق والعدالة والنظام والقرارات المجمعية وتقبل الآخر منهجًا في حياته.
وأخيراً كل عام وصاحب القداسة البابا تواضروس الثاني بكل خير وصحة وسلام إِدامه الله لوطنه وكنيسته ويحفظه لنا سنين عديدة وأزمنة سالمة.