فؤاد ابراهيم
احتفلنا نحن المصريون في نوفمبر 2022 بقمة المناخ 27 في شرم الشيخ باعتبارها دعاية عظيمة لاستقرار الأحوال الأمنية في مصر ولجذب المستثمرين والسائحين اليها حتى يتعافى اقتصادها المتدهور. ولكن عامة الشعب لا يُعير مشكلة تغير المناخ أي التفاتة، بينما السياسيون الخضر المسيطرون الآن على السياسة في ألمانيا قد جعلوا حل مشكلة كوكب الارض من أولوياتهم. وتكلمت الكنائس الغربية عن فضيلة السلوك البيئي الذي يحافظ على الخليقة البشرية والطبيعية كأمر إلهي.

في هذه الأوقات الحرجة تُملى علينا الضرورة أن نقوم بإجراءات سريعة لإنقاذ كوكب الأرض قبل فوات الأوان. ولذا قررت الكنائس الغربية ألاّ تقف مكتوفة الأيدى وبلا مبالاة. لذلك تحدثوا عن فضيلة السلوك البيئي الذي يهتم برعاية الإنسان للخليقة كوصية إلهية.  فإن الإيمان بأن العالم هو خليقة الله يضع على عاتق الإنسان مسؤلية أخلاقية كبرى. وهذا الإيمان يحدد العلاقة التي يجب أن تكون بيننا وبين الله وبيئتنا الطبيعية، أي علاقتنا بالمخلوقات المادية الأخرى. ونحن نعلم من سفر التكوين 2، 7 أن كل إنسان، مثل آدم، مصنوع من الأرض أو التراب، وبالتالي فهو جزء من النظام البيئي للأرض، مثل جميع الكائنات الحية الأخرى التي تشارك البشر فى الحياة على الأرض. بالإضافة إلى ذلك، يقول سفر التكوين 2: 15 أن الإنسان يجب أن يحرس ويزرع حديقة الله. ومن تكوين 1: 27 يمكننا أن نرى أن الإنسان، كصورة حية لله، هو ممثله على الأرض والحاكم المسؤول على جميع المخلوقات الأخرى (تك 1: 28). هذا التوكيل الإلهى يكرّم الإنسان لكنه فى نفس الوقت يلقى عليه مسؤولية كبيرة للغاية سيحاسبنا الله عليه يوما ما.

إن الله خلق الانسان وكل الخليقة من فيض محبّته، ووجد كل شئ حسناً. والدليل على حب الله للخليقة أنه قبل أن يُهلك الأشرار فى الطوفان لم ينسى أن ينقذ الحيوانات البرية والزواحف مع نوح وعائلته بواسطة الفلك. وكنيستنا القبطية تصلّى فى القداسات من أجل أهوية السماء ومياه الأنهار وثمرات الأرض والعشب والأشجار المثمرة. ولا يجب أن يقتصر دورنا على الصلاة من أجلها فقط، بل يجب أن نحرسها ونحافظ عليها أيضا. فإذا كانت خلقة الإنسان وسائر الخليقة تُعبّر عن محبة الله فمن نحن حتى ندمّر صنعة يديه ورمز محبته؟!

نحن في كلياتنا الإكليريكية ندرس فروع متعددة من علم اللاهوت، منها اللاهوت النظري والدفاعي والعقيدي والروحي والطقسي، والأدبي، والرعوي، والمقارن. كل فرع له علمائه وكتبه ونظرياته. أما في الجامعات الغربية فبالإضافة إلى هذه الفروع نجد أيضا فروعا لاهوتية حديثة من أهمها اللاهوت البيئي أو الإيكولوجى.

وجدير بالذكر فإن من أبرز الباحثين الألمان حالياً في هذا الفرع اللاهوتي هي أحدى بناتنا من الجيل الثاني: د. إيزيس إبراهيم، التي حصلت على درجة الزمالة بنشر رسالتها:

Isis Ibrahim: Identität und Schöpfungsglaube – Interkulturelle und interreligiöse Perspektiven und Schöpfungsrheologie. Bonifatius, Paderborn 2022, 441 S. ISBN 978-3-89710-932-2
وكتبت فيها أنه "لزاما على الأديان العالمية إن تقوم بواجبها، من منطق إيكولوجى، للاتفاق معا على قيم وقواعد بيئية عالمية، وتعضيدها ونشرها كفضائل دينية يلزم إتباعها."

قد يبدو الكلام عن الحفاظ على البيئة والمناخ العالمي للبعض منّا كنوع من الترف الذي تُمارسه الشعوب الغنية الشبعانة فقط. وليس له علاقة بالدين. لكن إذا تمعننّا في طريقة تعاملنا مع الموارد الطبيعية لوجدنا أمثلة كثيرة على خطايا جسيمة نرتكبها، ولكننا لا نشعر بارتكابها ولا نرى ضرورة للتوبة عنها.
هذا السلوك ينتقده أيضا رئيس الكنيسة الكاثوليكية ، البابا فرانسيس، ويقول إنه حتى "بعض المسيحيين الملتزمين والمصلين [...] " عادة ما يسخرون من المخاوف البيئية"، في حين أن الآخرين "سلبيون" و "لا يغيرون عاداتهم". هذا خطأ، ولذا يدعو البابا إلى "التحول البيئي": "لان تحقيق الدعوة الإلهية لنا لنكون حماة لعمل الله أمر ضروري لمن يريد أن يحيا حياة روحية فاضلة. وهذا ليس شيئا اختياريا، ولا جانبا ثانويا فى الحياة المسيحية". (كن مسبحا 217)

 وفى التالي نقدم بعض الأمثلة للخطايا البيئية التى يرتكبها البشر دون تردد:
- إن الدول الصناعية قد تسبّبت منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر في زيادة نسبة ثانى أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، مما أدّى الى الاحتباس الحراري وارتفاع درجة الحرارة في العالم كله. ويقدّر العلماء أنه لو ارتفعت درجة الحرارة بمقدار درجتين فقط حتى عام 2050 سيؤدى ذلك الى ذوبان كميات ضخمة من الجليد في مناطق القطبين الشمالى والجنوبى والجبال العالية وكذلك تمدد مياه المحيطات، مما سيؤدى إلى ارتفاع منسوب البحار وغرق مناطق ساحلية كثيرة كثيفة السكان مثل دلتا النيل، التى يسكنها وحدها أكثر من 60 مليون شخص. وهذا سيكون بمثابة ارتكاب جريمة قتل جماعي لشعوب فقيرة بواسطة شعوب صناعية غنية تتسارع فيما بينها للسيطرة على الاقتصاد العالمي. ولهذا وجب مناقشة هذا الجشع على مستوى ديني وأخلاقي وقانونى.

- يعتبر علماء البيئة الغابات كخزّانات كربونية تمنع ثانى أكسيد الكربون من الانطلاق فى الغلاف الجوي وزيادة حدة الاحتباس الحراري. ولذا فأن قطع الغابات الإستوائية وإقامة المزارع التجارية الشاسعة منذ زمن الاستعمار والتى تمارسه الشركات الغنية حتى الآن قد زاد من انبعاث ثانى أكسيد الكربون فى الجو وقلل من إنتاج الأكسجين عن طريق التمثيل الكلوروفلى للأشجار. فعلى سبيل المثال تقوم الشركات العالمية الكبرى بالاشتراك مع حكومات فاسدة فى البرازيل بإزالة الغابات الإستوائية لزراعة الموز وفواكة أخرى للتصدير الى الدول الغنية. وبذلك نشترك نحن المستهلكون لهذه المحصولات الإستوائية فى تحطيم كوكب الأرض الذي سوف يعيش فيه أحفادنا. هل شعر أحدنا بالذنب لفعل هذه الخطية؟ أليس هذا الموضوع موضوعا اخلاقيا ودينياً من الدرجة الأولى؟

- وفقا للأمم المتحدة تساهم تربية الماشية وإنتاج اللحوم ب 14,5% من انبعاثات غاز ثانى أكسيد الكربون وغاز الميثان المؤدية الى الاحتباس الحراري. وبما أن نصيب الفرد السنوي من استهلاك اللحوم فى الدول الصناعية يبلغ 17 ضعف نصيب الفرد فى الدول الفقيرة فى جنوب آسيا وأفريقيا، فإن المسؤول الأكبر عن الاحتباس الحراري هو السلوك الغذائي لسكان الدول الصناعية والطبقات الاجتماعية ذات الدخل المرتفع فى الدول النامية. فهل شعرنا مرّة بالذنب حينما أكلنا لحما حتى شبعنا؟

- نفس الشيء يمكن أن يُقال عن استخدام الأغنياء الهائل لمصادر الطاقة الأحفورية: الفحم والبترول والغاز لتشغيل السيارات والبوتاجازات واجهزة التكييف والثلاجات وغيرها من الأجهزة الكهربائية. فمثلا نجد أن استهلاك الطاقة للشخص فى كندا 10 أضعاف إستهلاك الشخص فى مصر و425 ضعف إستهلاك الشخص فى الصومال. فهل شعرسكان البلدان الغنية وأصحاب المساكن المكيفة والسيارات الفارهة بالذنب يوماً؟
كل هذه الأمثلة تشير بإصبع الاتهام الى جيلنا الحالي لأنه يسلب الأجيال القادمة حق الحياة فى بيئة صحية مُثمرة مُستدامة، ويشير إصبع الاتهام بالذات إلى ذوي الدخول المرتفعة لأنهم بسلوكهم الأناني يُعرّضون الفقراء للجوع والعطش والمرض إزاء التغيرات المناخية وتلوث الهواء والماء والتصحّر وبوار الأرض الخصبة وتهتّك طبقة الأوزون فى الغلاف الجوي العلوى، التى تحمى الخليقة من الأشعة الفوق بنفسجية الضارة للنباتات والقاتلة للكائنات الحية.

يقول البعض إن علم اللاهوت ليس له شأن بهذه المشكلة. وهنا نسأل: هل اللاهوت لا يعنية جرائم الإضرار بالبشر وموارد معيشتهم، وتشريدهم، وتجويعهم وتعطيشهم؟ هل اللاهوت يسمح لنا أن نعيش فى رفاهية على حساب أحفادنا ونترك لهم أرضا جرداء وجوا ملوثا وبحارا مليئة بنفايات البلاستك والبترول وكوكبا مشحونا بالإشعاعات والنفايات النووية؟!