فاطمة ناعوت
«تَجمَّلْ بالأخلاق». مبادرةٌ راقية تاقت نفسى لأن تحدثَ فى مصر منذ دهور لاستعادة وتكريس قيم الأخلاق والرقى والتحضّر التى تساقطت من شعبنا الطيب مع الوقت لأسباب كثيرة يعرفُها الجميع. وأخيرًا أطلقتِ «المتحدة للخدمات الإعلامية» تلك المبادرة الجميلة فى إطار «الجمهورية الجديدة ٢٠٣٠» لتصحيح بعض السلوكات الخاطئة التى اخترقت مجتمعنا فى غفلة منّا، لكى نعود إلى «الكود الأخلاقى الرفيع» الذى تمتّع به آباؤنا وأجدادُنا فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات الماضية. خلال ومضات خاطفة لا تتعدى الدقيقة الواحدة تُبثُّ مقاطعُ فيديو على الفضائيات تتحدث كلٌّ منها عن مواقفَ شائنةٍ قد نمارسُها ببساطة دون وعى بأننا «نغتال» الآخرين معنويًّا وأدبيًّا. التحرش، التنمُّر، الفساد، وغيرها من التداعيات السلبية التى تشوّه مجتمعنا المصرى الطيب، تتجلى بكامل ثوبها المعتم الأشوه فى تلك المقاطع، حتى ننتبه إلى خطورتها، فنطردُها من أعماقنا. شكرًا للمبادرة الجميلة التى تحارب «التنمّر» الذى هو «قتلٌ» مع سبق الإصرار والترصّد. للأسف جميعُنا قَتلَ مراتٍ عديدة، عمدًا ومع سبق الإصرار والترصّد.
قبل أعوام حضرتُ مؤتمرًا عن الصحة النفسية. بعد المؤتمر حضرنا عشاءً على نغماتِ البولندى العظيم «فريدريك شوبان»، بتوقيع أنامل المصرى العظيم «رمزى يسّى» على البيانو، ورُحنا نتكلم عن حالات نعرفها من الناس، تعرضوا للضغط النفسى.
حكيتُ عن أشهر مريضة نفسية فى العالم، «فرجينيا وولف»، التى صنعت مجدَها الأدبى رغمًا عن، أو ربما بسبب، إصابتها باضطراب المزاج ثنائى القطب Bi-Polar Mood Disorder، الذى دفعها للانتحار غرقًا، حين أثقلت جيوبَ معطفها بالأحجار، ونزلت نهر «أوز» بإنجلترا، لتنتهى حياتُها الثرية عام ١٩٤١. هى البريطانية اللامعة التى غيرت مسارَ الرواية فى أوائل القرن الماضى، وأفخر بأننى ترجمتُ للعربية بعضًا من أعمالها الخالدة صدرت قبل أعوام عن «المركز القومى للترجمة» وقريبًا عن دار «هنداوى» للنشر والتوزيع.
ثم جاء دور الكوميديان الجميل «هانى رمزى» ليحكى لنا عن فنانة شاركته فيلم: «عاوز حقّى» وصاحبة الجملة الضاحكة الشهيرة: «البيت ده طاهر وهيفضل طول عمره طاهر». فى أحد أيام عام ٢٠٠٣، دخل «هانى رمزى» لوكيشن التصوير فوجدها تبكى والناس من حولها يضحكون. ثم عرف أنهم يسخرون منها حين انتشر خبرُ أنها كانت رجلا وتحوّلت بالجراحة إلى امرأة. بعد تلك الواقعة، دخلت الفنانة المصحة النفسية، وماتت. انتحارًا كان أو غير انتحار، المهم أنها لم تعد موجودة بسبب تنمّر بعض المراهقين «القتلة».
لكن هناك فارقًا هائلا بين موت «فرجينيا وولف» وموت الفنانة المصرية الأولى لم يقتلها أحدٌ. بل دعمها كلُّ من حولها من زوج وأصدقاء وجيران وأهل، للحد الذى قررت معه الرحيل حتى ترفع حملها عن الجميع، كما ورد فى رسالتيها اللتين تركتهما لزوجها. كان حولها متحضرون يحبّونها ويدعمونها. أما الفنانة المصرية فتعرضت للاغتيال الجماعى السافر السافل من المحيطين والجيران والجهلاء من زملاء المهنة. هذا قتلٌ عمدٌ لا رحمة فيه.
كلُّ كلمة سخرية سخرنا بها من شخص مأزوم، قتلٌ عمد. كلُّ شائعة روّجناها حول إنسان، قتلٌ عمد. كلُّ مساعدة لم نؤدّها إلى شخص يحتاجها، قتلٌ عمد. جرائمُ القتل العمدى، لا حصرَ لها، وجميعُنا ارتكب شيئًا من تلك الجرائم، ونحن نبتسم!.
هل تذكرون حلقات القتل الجماعية الرخيصة التى دارت حول الفنانة «صباح» لأنها تخطّت الثمانين من عمرها؟ نكاتٌ بذيئة كانت تنطلق كل نهار من أفواه مراهقة، حول الجميلة التى أمتعتنا بصوتها الاستثنائى، ومازالت. لصالح مَن؟ لصالح القبح والتفاهة والرخص والقتل العمدى. وفى المقابل، انظروا إلى الأوروبية «دورو ديكاستر» التى احتفلت قبل أعوام بعيد ميلادها الـ ١٠٢، بالقفز بالمظلة فوق سطح البحر. وقف الناس يصفقون لها بحب وإعجاب. تُرى هل بوسع مشهد رائع كهذا أن يحدث فى مجتمعاتنا دون تنمّر وسخرية؟! نحن للأسف، نُحصى على المسنين سنواتهم، وكأننا ندفعها من أعمارنا!.
التحضّرُ هو القدرة على معاملة الآخرين برِقّة وتهذّب. التحضُّرُ هو الحب. وبهذا المعيار قِسْ درجة تحضرك، وتحضُّر من حولك.
عزيزى القارئ: اجلسِ الآن فى ركنك المفضل بالبيت. خفِّف الإضاءةَ، وأغمض عينيك، وراجع شريط حياتك، ثم احصِ عدد قتلاك. وقبل أن تنهض لتعيد دفن ضحاياك فى قبر ذاكرتك، توضأ وصلِّ لله واستغفرْ، عَل الَله يغفر وهو الغفور الرحيم. لكننا لن نغتسل من دم ضحايانا إلا بالتعهد بأن نزِن كلماتنا التى تخرج من أفواهنا بميزان الذهب «قبل» أن ننطق بها. لأن الرصاصة التى تنطلق من فوهة الغدارة، لا تعود أبدًا. وأبدًا. عزيزى القاتل، أُعزّيك فى قتلاك، وأعزّى نفسى فى قتلاى. وطوبَى للرحماءِ لأنهم يُرحمون.
نقلا عن المصرى اليوم