حمدي رزق
تريثت حتى يكتب عن براءة الدكتور «يوسف بطرس غالى»، وزير المالية الأسبق، من كتبوا المعلقات فى اتهامه، ونالوا من شخصه، ونهشوا سمعته، ولكن يبدو أن أخبار البراءة لا تعنى أحدًا.. لا حس ولا خبر.
عادة لا يحفلون بالبراءة، لو كانت إدانة لنُصبت المشانق، ولتبارى المدعون بالحق الوطنى بصلب الدكتور يوسف على حوائطهم الإلكترونية!!
أحد عشر عامًا والاتهام معلق فى رقبته، بعيدًا عن وطنه وأهله، يتسمع أخبار مصر على البعد، ويتواصل مع الخاصة من بعيد لبعيد، كل العواصم لا تريحه، وكل المدن لا تغنيه عن حوارى القاهرة.
هكذا حال الدكتور يوسف الذى غادر القاهرة متهمًا، مطاردًا، ملعونًا، يلفه الحزن، وظل الحزن ملازمًا له حتى تلقى حكم محكمة جنايات القاهرة، ببراءته فى القضية المعروفة بـ«اللوحات المعدنية».
يقينًا الدكتور يوسف سعيد، كان ينتظر الحكم على أحرِّ من الجمر ليسترد اعتباره بين أهله وناسه، ويستعيد مكانته كإحدى الخبرات المالية العالمية، ولسان حاله: «بلادى وإن جارت علىّ عزيزةٌ.. وأهلى وإن ضنّوا علىّ كِرام».. وضنُّوا عليه حتى بخبر البراءة!!
إذا سألت الدكتور يوسف: كم لبثت فى المنفى الاختيارى؟ يُسمعّها لك بالسنة واليوم والساعة.. ثقيلة على النفس الغربة القسرية، تستوحش أيامك، وتحنّ إلى أحبابك، وتودع على البعد خاصتك، بعضهم يرحل دون نظرة وداع.
أحد عشر عامًا فى الغربة، ولم يصدر عنه حرف يجرح بلاده، ولم يخن بلاده فى المضاجع الخارجية، وصمت على مضض، ظل على العهد «رجل دولة» يعى دوره فى ظهر وطنه داعمًا حتى بقلبه وهذا أضعف الإيمان.
لم يكن يومًا عبئًا على وطنه، ولا طاف بقضيته على المنظمات الحقوقية، ولا زعم مظلومية، قرر أن يحارب معركته قضائيًا، درجة درجة، وحتى إعادة محاكمته وظفره ببراءة مستحقة فى نهاية المطاف.
سيعود الدكتور يوسف عاجلًا أو آجلًا إلى وطنه بعد اغتراب دام، رافعًا رأسه، مودعًا أحزانه التى عكست لونها على ملامحه، ولونت شعره فاشتعل الرأس شيبًا.
شعور مرير أن تعيش أكثر من عقد من الزمان خارج وطنك متهمًا بتهمة معلقة فى رقبتك، كأنها لعنة أصابتك، صحيح الدكتور يوسف عاش خارج البلاد بجسده، ولكن روحه ظلت هنا، ومثله مثل السمك النيلى لا يعيش إلا فى مياه النيل العذبة.
وفى هذا السياق الاغترابى، يقول الدكتور يوسف للصديق «محمد على خير» فى برنامجه الشهير «المصرى افندى»: «أنا بحسب الغربة بالدقيقة.. الغربة وحشة، ومهما كان البلد اللى عايش فيه حلو لكن واحشنى المشى فى الشوارع، والجلوس على القهاوى فى المعهد الفنى».
ربما الدكتور يوسف بطرس غالى كان آخر من تحصلوا على البراءة من عاصفة البلاغات التى هبت على مصر بعد يناير ٢٠١١، عاصفة لفحت الوجوه جميعًا ببلاغات عقورة، أمسكت كالنار بثياب الجميع إلا من رحم ربى.
عاصفة هوجاء أحرقت وجوهًا، وخربت بيوتًا، وقبضت أرواحًا، وأعجزت قامات، فلبثوا فى قعور بيوتهم خشية البهدلة وقلة القيمة.. وبعضهم (ومنهم الدكتور يوسف) تخارج خارج الحدود حتى تخمد العاصفة، وتضع حرب البلاغات أوزارها.. وقد حدث.
نقلا عن المصرى اليوم