القمص يوحنا نصيف
    " القطيع الصغير'>لا تخف أيّها القطيع الصغير، لأنّ أباكم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت.." (لو12: 32).

    كلّنا نحبّ هذه الآية الجميلة، فهي تحمل لنا الكثير من الطمأنينة والحُبّ الذي يغمرنا الله به، نحن غير المستحقّين.. فهو يقدّم لنا بفرح ملكوته لكي نملك ونفرح معه، في مجده الأبدي..!

    قد نفهم المعنى أنّ المؤمنين به هم قِلّة في هذا العالم، كقطيع صغير.. وإذ أنّ الله معنا ويفتح لنا أبواب الملكوت، فلا ينبغي أن نخاف أبدًا من التيّارات الكثيرة المضادّة حولنا.. وهذا المعنى جميل وصحيح..

    ولكنّ القدّيس كيرلس الكبير، في تعليقه علي هذه الآية، يقدّم لنا بعض المعاني الأخرى اللطيفة، التي قد تكون جديدة علينا، ولكنّها تكشف لنا أبعادًا رائعة لكلمات الربّ يسوع، عندما يقول "لا تَخَف"،  ولماذا يصفنا بأنّنا "القطيع الصغير"؟!

    + يتنازل المُخلِّص مرّة أخرى، ليُنعِم لنا بطريقٍ يؤدّي إلى الحياة الأبديّة، ويفتح لنا باب الخلاص بسِعَة، حتّى عندما نسافر على هذا الطريق، ونُزَيِّن النفس بكلّ فضيلة، يمكننا أن نصِل إلى المدينة التي هي فوق.. لأنّ ذلك المسكن الذي في السماء هو غير متزعزع، والفرح الذي لا ينتهي هو نصيب أولئك الذين يسكنون فيه.

    + الربّ يرينا طبيعة الطريق الذي يقودنا إلى هناك بقوله: "لا تخَف أيّها القطيع الصغير، لأنّ أباكم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت". هذا إذن هو حقًّا العزاء الروحاني، والطريق الذي يقودنا إلى الإيمان اليقيني.

    + هو يعني بـ "لا تخَف"، أنّهم ينبغي أن يؤمنوا بكلّ يقين، وبلا أدنى شكّ، أنّ أباهم سيعطي وسائل الحياة للذين يحبّونه. وهو لن يُهمِل خاصّته، بل بالحريّ سوف يفتح يده لهم، وهي التي تُشبِع دائمًا الكون كلّه بالخير.

    + الذي يعطي أشياء عظيمة وثمينة بهذا المقدار، ويعطي ملكوت السموات، فكيف يمكن أن تكون إرادته غير مستعدّة للشفقة علينا، أو كيف لا يزوِّدنا بالطعام واللباس؟ لأنّ أيّ خير أرضي يتساوى مع الملكوت السماوي؟ أو ما هو الذي يستحقّ أن نقارنه بتلك البركات، التي سيعطيها الله لنا، والتي لا يستطيع الفهم أن يدركها، ولا الكلمات أن تصفها "ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، ولم يخطُر على قلب إنسان، الأمور التي أعدّها الله للذين يحبّونه" (1كو2: 9). فحينما تَمدَح الغِنى الأرضي، وتَعجَب بالسلطان العالمي، فإنّ هذه الأشياء ليست سوى العدَم بالمقارنة بتلك التي أعدّها الله لنا.

    + هو يدعو الذين على الأرض "القطيع الصغير"، لأنّنا أقلّ من جموع الملائكة، الذين لا يُحصَون، ويتفوّقون بغير قياسٍ في القوّة على أمورنا المائتة. وهذا أيضًا قد علّمَنا إيّاه المخلِّص نفسه، في ذلك المَثَل الوارد في الأناجيل، الذي صِيغَ ببراعة ممتازة لأجل تعليمنا، لأنّه قال: "إي إنسان منكم له مئة خروف، واضاع واحدًا منها، ألا يترك التسعة والتسعين على الجبال، ويذهب ليطلب ذلك الذي ضلّ..." (لو15: 4-5). لاحظوا إذن أنّه بينما عدد المخلوقات العقليّة يصِل إلى مِئة، فإنّ القطيع الذي على الأرض ليس سوى واحد من مئة. ولكن رغم أنّه صغير، في الطبيعة كما في العدد والكرامة، بالمقارنة بجماعات وفِرَق الأرواح غير المُحصاة التي هي فوق، إلاّ أنّ صلاح الآب الذي يفوق كلّ وصف، قد أعطى له أيضًا نصيبًا مع تلك الأرواح العالية، وأعني نصيبًا في ملكوت السموات.

[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 91) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]