د. وديع منصور (دياكون موريس )
أولا: البعد الإيماني و العقيدي
تحدثنا فى المقال السابق https://www.copts-united.com/Article.php?I=5000&A=730732 عن المخاطر التي تؤدي إلى ترك أبناءنا فى المهجر للكنيسة القبطية و تسربهم منها. و تكلمنا عن السبل التي من الممكن أن تحافظ على أبنائنا فى كنيستهم القبطية بدون التغرب عن مجتمعهم فى المهجر. و كان هناك ثلاثة أبعاد للحفاظ على أبنائنا فى الكنيسة: البعد الإيماني و العقيدي، البعد الروحي و السلوكي ، اخيرا البعد الثقافي و الإجتماعي.
نبدأ اليوم بالبعد الإيماني و العقيدي.
يحاول بعض الخدام و الرعاة أن يتجنبوا الحديث عن النقاط الإيمانية و العقيدية فى المسيحية، لإعتقادهم أنها مرفوضة من التيارات الفكرية و الفلسفية المختلفة فى المهجر، و يحاول هؤلاء الخدام و الرعاة الهروب من المواجهة و النقاشات التي يخافون ألا تكون فى صالحهم، فيبحثون عن الأفكار و الأخلاقيات و السلوكيات المشتركة مع مجتمع المهجر، و يتجنبوا الحديث عن الإيمان المسيحي. و يختزلون المسيحية فى مجموعة من الأخلاقيات و السلوكيات المثالية.
إنهم يعتقدون أنهم عندما يستخدمون الأرضية المشتركة مع المجتمع، و يتجنبون التبشير بالمسيح و الإيمان المسيجي لتجنب الرفض من المجتمع فى المهجر. فيتحدثون عن المحبة و السلام و الوحدة و الكرامة الأنسانية ... إلخ. بدون الحديث عن مصدر هذه القيم الرائعة و هو المسيح له المجد، يعتقدون أنهم بذلك يتجنبون المواجهة و الصدام مع المجتمع فى المهجر.
فى الحقيقة المجتمع الغربي في أزمته مع الدين لم يرفض الإيمان المسيحي ذاته ، و لم يرفض السلوكيات المسيحية النقية ، بل رفض السلوكيات المشينة لمدعي التدين الظاهري و التي تخالف مبادئ الإيمان و السلوك المسيحي. لذلك لا داعي للخوف الزائد من المجاهرة بالإيمان المسيحي، إن كانت هناك حياة و سلوك يشهدان لهذا الإيمان.
أن إختزلنا المسيحية فى مجموعة من السلوكيات و الأخلاقيات، فسوف تجعل صورة المسيحية باهتة و تذوب المسيحية و تختفي، فما هو الفرق بين المسيحية و الأديان و الفلسفات الأخري؟ فكل الأديان حتي الوضعية و كل الحركات و الفلسفات حتي الإلحادية تنادي بالسلوكيات الحسنة تجاه الآخرين و المجتمع.
و هنا سوف يشعر أولادنا أنه لا فرق بين ما تقدمه الكنيسة و بين ما يقدمه المدرس فى المدرسة و الإخصائي الإجتماعي و النفسي في عيادته و المدرب فى النادي و المحاضر فى الجامعة و الممثل فى الفيلم و الكاتب فى المجلة و الكاهن البوذي فى معبده. و يشعر أن إنتماءه إلى أيا من هذه الكيانات لا يشكل فارقا، فكلهم ينادون بنفس الكلام و المبادئ.
هل معنى هذا أن السلوك غير مهم و المهم فقط هو الإيمان و العقيدة؟
-بالطبع لا.. لأنه بدون السلوك و الأخلاق لا وجود للإيمان.
إن التجسد الإلهي و أتحاد المسيح بنا فى جسده هو عصب اللاهوت المسيحي و خاصة لاهوت كنيسة الأسكندرية (الكنيسة القبطية). و هو ليس مجرد عقيدة فكرية بل يجب أن يترجم إلى سلوك روحي و حياتي.
فيقول بولس : واياه "أي المسيح" جعل راسا فوق كل شيء للكنيسة، التي هي جسده "أف 1 : 22 " و يقول ايضا: ( لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه ) "أف 5 : 30" ، واما انتم فجسد المسيح واعضاؤه افرادا." 1كو 12 : 27 ".
و يقول القديس أثناسيوس : (نحن الذين حَمَلنا المسيح في جسده الخاص. لأنه كما قدَّم جسده للموت عن الجميع، هكذا بنفس هذا الجسد أيضًا أعدَّ الطريق للصعود إلى السماء) (تجسد الكلمة فصل 6 : 25 )
و يقول أحد أعمدة الفكر السكندري و هو القديس كيرلس الكبير : وهكذا يحل ويسكن المسيح في الجميع، لمَّا حَلَّ وسكن في هيكلٍ واحد مأخوذ منا ولأجلنا، إذ احتوانا كلنا في نفسه. و يقول أيضا " جميعنا كنا فى المسيح ، و الشخصية البشرية فى عموميتها كانت ترتقي في شخصه"
و نصلي فى التسبحة : " كل عجينة البشرية أعطتها العذراء بالكمال لله الخالق و كلمة الآب" ثيؤوطوكية الخميس.
ومن خلال هذا الإيمان تتبلور عدة مبادئ
1.محبة الثالوث الفائقة للبشر، من خلال الإتحاد بالبشرية، و تبنينا للآب فى المسيح و إعطاء البشرية ميراث الإبن فى المسيح نفسه.
2.الجميع متساوون فى الكرامة و مخلتفون فى الوظيفة فقط ، حيث أننا جميعا أعضاء جسد المسيح الواحد، و كل أعضاء المسيح مكرمة ، و ليس لعضو كرامة أكثر من عضو آخر.
بعض أمثلة للسلوكيات و الأخلاقيات القائمة على هذا الإيمان المسيحي:
المساواة و الحرية و الكرامة الإنسانية: فالمسيحية تعلمنا ، أننا كوننا أعضاء فى جسد المسيح الحي، فلنا نفس الكرامة، مع إختلاف الوظيفة فقط. فلا يوجد عضو فى جسد المسيح و إلا و تعطيه الكنيسة كرامته و تخدمه كإبن للملك و تضع الكنيسة نفسها كخادمة للملك و اولاده المحبوبين.
محبة الخاطئ: فنحن ندرك أننا جميعا خطاة، و برغم ذلك جميعنا محبوبون من الآب برغم خطايانا، و قد بذل الآب دم إبنه لأجل خلاصنا، لذلك فإن قيمة كل إنسان، مهما كانت خطيته، غالية على قلب الله و هي تساوي دم المسيح، لذلك فدورك كإنسان مسيحي أن تقدم هذا الحب و البشارة بالخلاص، كطبيب لمريض ، او قل كمريض شفي بدم المسيح لمريض لم يري المسيح بعد، و ليس كقاضي لمتهم، و ليس كمصلح إجتماعي يريد أن يتقي شر المخطئ بإصلاحه.
الوحدة و السلام بين البشر: نحن نحب الإنسان و نحترمه مهما كان لونه أو عرقه أو إعتقاده لأنه صورة الله و مثاله، و شوق قلب الله أن يصير جميع البشر أعضاء في جسد المسيح ، فأنت تحبه و تحترمه لأنك تحب و تحترم جسد المسيح و ليس مجرد التعايش الإجتماعي القائم على الخوف من القوانين أو الحروب أو من أجل ألإتيكيت.
خدمة ذوي الإحتياجات الخاصة: نحن نخدمهم بحب لأننا نري أنهم أعضاء المسيح الأكثر كرامة حتي و هم أكثر ضعفا.
إحترام المرأة: فالمسيحية تري أنه في المسيح ليس ذكر و لا أنثي، حيث المساواة التامة و نحن ننظر لها أنها عضو فى جسد المسيح الطاهر الذي لا دنس أو نجاسة فيه، و هي تتساوى تماما مع جميع الأعضاء الآخرين. و المعني الحقيقي لكون الرجل "رأس المرأة" هو الجهد الإضافي الذي يبذله الرأس لإراحة الجسد، و مكان الرجل المفضل هو عند أقدام الأسرة لغسيل الأرجل كما غسل المسيح أرجل الكنيسة.
الحفاظ على البيئة: تنبع نظرة المسيحية للبيئة و الحفاظ عليها من إيماننا أن به (بالمسيح) كان كل شئ و بغيره لم يكن شيئا مما كان، و فيه "أي في المسيح" خلق الكل: ما في السماوات وما على الارض، ما يرى وما لا يرى، فالطبيعة هي عطاء الله لنا التي نرى فيها عظمة صنعه و محبته لنا، و حفاظنا على البيئة ليس بمنطق إستهلاكي لتستمر فترة أطول لنستنزفها أطول فترة ممكنة.
الإهتمام بالطفولة: إن ولادتنا للأطفال هو شركتنا مع الله فى تكوين الكنيسة و نمو الملكوت و ولادة أعضاء جدد فى جسد المسيح.
أفكار للتطبيق العملي:
1.الإهتمام بتسليم الإيمان و العقيدة المسيحية، بما يتناسب مع كل مرحلة عمرية من مرحلة الحضانة حتى كبار السن، مع التركيز على العقائد الأساسية : الثالوث، الخلق و السقوط و الفداء و الخلاص ، الكنيسة و الأسرار، المجئ الثاني و الأبدية .
2.ربط السلوك الروحي فى العظات أو دروس مدارس الأحد بالإيمان و العقيدة.
3.تكوين مجموعات دراسية متخصصة للدراسات العقيدية و الإيمانية و الكتابية للمهتمين بذلك.
4.عند مشاركة اي فرد من الكنيسة القبطية سواء علماني أو خادم أو راعي فى أي فعاليات مجتمعية مثل لقاءات للحفاظ على البيئة، لقاءات ضد التمييز ضد المرأة ، لقاءات لمساندة ذوي الإحتياجات الخاصة ، لقاءات لمناهضة الحروب .... الخ يجب التأكيد على تبنينا لهذه القيم المشتركة و لكن يجب ايضا إيضاح البعد الإيماني و البعد الكتابي لسلوكنا و قناعاتنا.
ملحوظة هامة جدا: إننا هنا نتكلم على البعد اللاهوتي لهذه الأعمال و السلوكيات عندما تكون قائمة على الإيمان المسيحي ، و نتكلم عن الإيمان المسيحي الذي يجب أن يصير حيا و عاملا فى حياتنا و سلوكنا. و لكن فى الوقت نفسه لا ندين و لا نحتقر و لا نهاجم جميع البشر من كل الأجناس و الثقافات و الأيدولوجيات و المعتقدات الذين يسلكون بهذه القيم و يمارسون هذه السلوكيات و المبادئ و الأخلاقيات خارج الإيمان المسيحي، فالله هو وحده الديان كلى العدل و كلى الرحمة و هو الذي يقيم سلوك و عمل كل إنسان.