سمير مرقص
(1) «برونو لاتور: معمل الحياة»
فى شهر أكتوبر الماضى، غادر الدنيا الفيلسوف الفرنسى وعالم الاجتماع والأنثروبولوجى الشهير «برونو لاتور» عن عمر يناهز الـ 75 عاما. استطاع «لاتور» أن يجمع بين دراسة الفلسفة والعلم والسياسة والأنثروبولوجيا، كما استطاع أن يدرس الظواهر الجديدة المتعلقة بالتكنولوجيا والبيئة والشبكات الرقمية.
يعد «لاتور» أحد الفلاسفة المعاصرين الذين انتبهوا منذ الثمانينيات من القرن الماضى إلى أهمية العلم والتقنية اللذين يتجددان باطّراد فى حياة الإنسان المعاصر، ومن ثم ضرورة تأمل أثرهما: «العلم والتقنية» على الإنسانية.
فى هذا المقام، أبدع «لاتور» ما أطلق عليه «معمل الحياة»، الذى من خلاله يقوم «العالم المتأمل»؛ الذى يجمع بين دور الفيلسوف ودور العالم، برصد ما يستجد على الإنسان المعاصر وعلى الواقع والمجتمع والكوكب من مستجدات يتقاطع فيها: الاجتماعى والعلمى، والفكرى والمادى، ومدى تأثير ما سبق على الوجود والمصير الإنسانى والكوكبى (تراجع الترجمة الإنجليزية لكتابه: معمل الحياة Laboratory Life؛ طبع 1986). وأذكر فى هذا المقام ما قاله فى أحد الحوارات ما نصه: «لقد دخل تاريخ الأرض فى مجال التاريخ البشرى، فأنشطة البشر تُفسد أكثر من أى وقت مضى، وبوتيرة سريعة، وبشكل عميق ودائم المحيط البيئى الذى يفسد بدوره، بفعل ارتدادى، ظروف عيش الكائنات»، ومن ثم الكوكب والحياة عليه.. الأمر الذى يتحتم علينا فيه الاستنفار.
(2) «نخبة جديدة تكتشف طريقة جديدة للعيش»
إن قضية المستقبل يجب أن تشغل بال الإنسانية.. ولكن يستدرك «لاتور»؛ المستقبل بأى معنى؟.. «قضية المستقبل الأساسية لم تعد تطرح مطلقًا بالمفهوم الزمنى، بل بمفهوم المكان. على أى أرض نعيش؟ بما أننا لا نملك أى ملجأ نلوذ به، فإنه يقع على عاتقنا التفكير فى الحاضر المهدد: طبيعة هذا التهديد وتداعياته».. ويجيب «لاتور» بأن: قضية المناخ تأتى فى مقدمة التهديدات. ويلفت النظر إلى ضرورة التعاطى معها ليس باعتبارها أزمة طبيعية/ بيئية محضة، بل ينبغى وضعها فى قلب الحرب الجيو- سياسية العالمية الناتجة عن صراع طبقات جيو- اجتماعية عالمية.. فلقد كشفت ثنائية الحرب- الصراع عن انفلات عقال القادة والعلماء الذين يقومون بالتخديم عليهم وعلى «ثرويى» العولمة من خلفهم. فلقد تملكهم الشره فى انتهاك الموارد والثروات وإنهاك الطبيعة وتلويثها بما يدمرها فى النهاية.. من هنا باتت هناك ضرورة لمناهضة نخب الصراع والحرب والعلم التى تسببت فى أن نعيش «أرضًا خرابًا» (إذا ما استعرنا عنوان العمل الخالد لإليوت) واستبدال أخرى بها تعمل ـ بإخلاص ومن منطق الصالح العام ـ على اكتشاف طريقة أخرى للعيش، توفر الأمن للمكان؛ أو بلغة أخرى: «استخراج النظام ـ الجديد ـ من الفوضى القائمة». انطلاقًا من قول الفيلسوف الألمانى كارل شميدت (1888 ـ 1985): «استحالة أن نكون بشرًا فى مكان سيئ».
(3) «جيل ما بعد الغلق ومهمة إنقاذ الكوكب ومواطنيه»
إن خطورة المهمة التى يضعها على عاتقنا «برونو لاتور» لا تكمن فى أنها تستلزم مقاومة العديد من الأطراف فقط، وإنما لأنها لا تحدها مساحة محددة، فهى حرب تمتد رحاها إلى كامل مسطح الكوكب، وكل ما يتعلق به من عناصر طبيعية مكونة لحياة المواطنين عليها والتى تتمثل فى: الهواء، وطبقات الأرض، والماء.. إلخ، أو فى المجمل يمكن أن نقول: الطبيعة أو «جايا» (راجع كتاب: Facing Gaia: Eight Lectures on the New Climate Regime؛ الصادر فى 2017)... إنها مهمة إنقاذ الكوكب التى يعتبرها «لاتور» مهمة تاريخية من جهة، ومهمة مزدوجة من جهة أخرى.. تاريخية؛ لأن الكوكب ومَن عليه يواجهون تحدى البقاء. ومركبة؛ لأنها تواجه اللامساواة التاريخية الاقتصادية والاجتماعية بين مواطنى الكوكب وفى نفس الوقت انقراض البشر والكوكب، وأن الأمرين ما هما إلا وجهان لحقيقة واحدة هى: فشل القائمين على الأمر فى إدارة الكوكب وتنمية مواطنيه. وبالتالى يمكن اعتبار الصيغة التاريخية التى سادت لما يزيد على أربعة عقود، وأقصد الفكرة النيوليبرالية والمشروع التنموى المواكب لها، قد باتت فاقدة الصلاحية.. ولا مناص من أن يتحمل جيل ما بعد الغلق دوره فى تولى المهمة التاريخية والمركبة من أجل إنقاذ الكوكب وجعله صالحًا للعيش الآمن لمواطنيه على أسس تقوم على العدل والمساواة والكرامة.
نقلا عن المصري اليوم