مدحت بشاي
لعل أخطر ما يُنتجه العقل المصرى الآن هو ذلك الفكر المستبد الذى ينهض على مصادرة النقد الإيجابى، وإقصاء الرأى الآخر، وتأثيم الفكر المختلف، وتأميم شروط وأدوات تفعيل الحوار وتخليقه، مما أفضى إلى تسريع وتائر التناقضات، وحدة التوترات التى تنال من النسيج الاجتماعى المفتقد إلى ديناميات مخصبة، وتغل حركته الطبيعية وسيولته السياسية أشكال من التجانس الأصم، والوعى الحامل قيم القبيلة، مع نزعة واضحة إلى تهميش أنماط الإنتاج الرمزية، وإهدار التراكم التاريخى للمنظومات الفكرية ورصيدها الإنسانى مما أصاب- بدوره- العلاقات الاجتماعية بنوع من الشلل والتشوه اللذين لا يسمحان بالتعبير الذاتى الحر، والمبادأة الخلاقة، والتنافس غير المنغلق على أنساق من التصنيفات ضيقة الأفق، أو غير المنطوى على تعالٍ نخبوى مقيت يدعى احتكار الحقيقة، ويعمد- من ثم- إلى تزوير الواقع.

ولا شك أن العملية النقدية تحتاج إلى رؤية أكثر اتساعًا من موضوع العمل الذى نتناوله بالتحليل أو الاستعراض النقدى، حيث النقد ممارسة فكرية لها امتدادات اجتماعية.

وإن كنا نثمن دور المناهج الأكاديمية فى النقد، ولكن لا ينبغى أن تتحول لإطارات مُقيدة للتفكير، ومن ثم الإبداع، وضد تنمية الوعى وتشتيت للذائقة النقدية، إذا لم تشكل تيارًا فكريًا ننطلق منه نحو التطوير والتجديد فى رؤيتنا الثقافية العامة.

وأرى أن الثقافة، إبداعًا أو نقدًا، يجب أن تكون فعلًا اجتماعيًا وعملًا لإثراء الوعى الثقافى والفكرى للمواطن فى المجتمعات التى تعيش مراحل النمو، والتى تعيش زمن الشروع فى إنجاز مشروع للتقدم، فممارسة النقد إحدى أدوات الفعل الحقيقى، ولا ينبغى أن يمارس فقط بشكل مظهرى من باب دعائى ومظهرى فى افتقاد للقيمة الثقافية كمعيار مهم للعملية النقدية.

ومعلوم أن هناك علاقة عضوية بين النقد والمنظومة الفكرية، حيث القدرة على الربط بين الثقافة والمجتمع، بين الثقافة والإنسان. وهذا هو الغائب الكبير عن الممارسات النقدية الحالية.. وعن فكرنا وثقافتنا عامة!!.

وعليه، أسعدنى إطلاق المرحلة السادسة من مشروع سينما الشعب مع بداية العام الجديد، وتصريح وزيرة الثقافة بأن المشروع ينطلق فى مرحلته الجديدة بعدد من المواقع، منها قصر ثقافة الأقصر، قصر ثقافة العريش بشمال سيناء، قصر ثقافة بورسعيد، قصر ثقافة روض الفرج بالقاهرة، مشيرة إلى أن العمل لنشر الثقافة السينمائية من خلال مشروع سينما الشعب يجرى بالتوازى مع إطلاق مشروع السينما فى الجامعات بالتعاون بين وزارتى الثقافة والتعليم العالى والبحث العلمى، والذى بدأ بجامعة المنصورة، وينطلق بثلاث جامعات أخرى قريبًا، وأن تلك المشاريع تأتى فى سياق سعى الوزارة لتحقيق العدالة الثقافية.

لا شك أن تراجُع الثقافة السينمائية يعود لعدة أسباب، من بينها تراجُع عدد القاعات السينمائية من جهة، وعدم اقتناع المؤسّسة التربوية التعليمية بأهمية إدراج الثقافة السينمائية فى البرامج التعليمية من جهة ثانية، وفشل الإعلام بكل وسائطه فى تنمية الثقافة السينمائية، وحتى البرنامج الوحيد الرائع «نادى السينما» كان قد توقف إنتاجه لتذهب مقدمته المتخصصة فى مجال تنمية الوعى السينمائى باقتدار د. درية شرف الدين لتتحول لتقديم برنامج حوارى كان يمكن إسناده لأى مذيع آخر.

كما أن معظم المراكز الثقافية الأجنبية التى كان لديها اهتمام بعقد مهرجانات سينمائية وتخصيص نوادٍ لها برامج منتظمة لعرض أفلام سينمائية من كل أنحاء الدنيا، وتستضيف نقادًا على قدر رائع من الحرفية والثقافة السينمائية الموسوعية قد توقفت برامجها فى هذا الاتجاه، وكم كان حرص وزارة الثقافة رائعًا فى تلك الفترة على إصدار مجلة «السينما»، وهو إصدار دورى بديع شامل لتشكيل وعى سينمائى عبر أعداد لايزال أبناء جيلى يحتفظون بها على رفوف مكتباتهم، والتى توقف إصدارها، وأذكر وأنا طالب بكلية الفنون التطبيقية، وبتقدمى لاختبارات القبول للدراسة بالمعهد العالى للسينما بجانب دراستى للفنون كان اجتيازى لها بتفوق، وذلك بالإشارة لذلك المناخ الثقافى الرائع المتاح للشباب فى تلك المرحلة.

وبمناسبة الإعلان عن إطلاق مشروع « الجامعات'>سينما الجامعات»، أذكر قبل الإحالة للتقاعد أن تقدمت بصفتى مدير عام إدارة الفنون بجامعة القاهرة للإدارة الجامعية بمقترح إقامة عروض سينمائية تعقبها منتديات حوارية بمشاركة نقاد سينمائيين لتنمية الذائقة الفنية والسينمائية والنقدية لدى شبابنا، ولكن الإدارة فى تلك الفترة توجست خيفة من جنازير «إخوان الشر» واقتحام قاعات العرض المظلمة فى تلك الفترة.

لا شك أن لمفهوم الثقافة مكانة مرموقة فى تاريخ فلسفة الفنون والعلوم، ولاسيما الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان)، فالثقافة فى النهاية مركب يشمل المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق والقوانين والتقاليد وكل الأعراف الأخرى والعادات المكتسبة من طرف الإنسان باعتباره عضوًا فى المجتمع.. وما يهمنا هنا هو ثقافة الفن السابع أو الثقافة السينمائية، حيث تتميز الثقافة السينمائية عن باقى الثقافات الأخرى فى كونها تشمل كل الفنون والعلوم، فهى وحدها موسوعة ويكيبيديا تحمل معرفة القصص والشعر والموسيقى والمسرح والرسم والنحت والهندسة وعلم البصريات والكهرباء والإلكترونيات وعلم الكتابة والتأليف، وتقنيات التصوير، واختراع الديكورات، وعلم الآداب والعلوم الإنسانية، إضافة إلى أنها تناقش مواضيع مهمة فى التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية والسياسية، فإذا ما شاهدنا عروض السينما وناقشنا صناعتها واستوعبنا مواضيعها، فقد نحظى بما تحمله الكتب فى طياتها، فمن يشاهد فيلمًا ويحلله كمن يقرأ كتابًا ويلخصه.
نقلا عن المصري اليوم