القمص يوحنا نصيف

 جاءني هذا السؤال من إحدى الأمّهات:
 في الحادثة المذكورة في إنجيل لوقا (ص2: 41-51)، عندما غاب الطفل يسوع عن الرفاق لمدّة ثلاثة أيّام بعد رجوعهم من الهيكل.. كيف يحدث أنّ أُمًّا لا تسأل عن ابنها ليوم كامل؟ ولو افترضنا أنّ الأطفال كانوا يمشون معًا، فهل قلب العذراء الأم لم يشعر به، ولا أحبّت أن تطمئن عليه؟! ولماذا لم يَعُد المسيح وحده للبيت مع نهاية اليوم أو بداية اليوم التالي؟!
 للإجابة عن هذا السؤال، يلزمنا أن نفهم جغرافية المنطقة، وكيف كان اليهود يسافرون من منطقة الجليل إلى مدينة أورشليم بمنطقة اليهوديّة، والعكس..
 ١- السَّفَر من أورشليم إلى الجليل، أو العكس، كان يستغرق حوالي ستة أيام.. ويبدأ دائما بعد انقضاء السبت، أي في صباح الأحد.
 ٢- السفر يكون دائما في مجموعات أو قوافل كبيرة معًا.. فهذا يكون أكثر أمانًا.
٣- الطريق المعتاد الذي كان يستخدمه اليهود في تلك الرحلة، المتكرّرة عِدّة مرّات سنويًّا، هو السير بمحاذاة نهر الأردن (وليس الطريق الساحلي بمحاذاة شاطئ البحر المتوسط)، وكانت المحطّة الجنوبية لتَجَمُّع القوافل هي نفس المكان الذي كان القديس يوحنا المعمدان يُعمِّد فيه على شاطئ نهر الأردن.. ولعلّ يوحنا اختار ذلك المكان المعروف ليضمن مرور وتجمع أكبر عدد من اليهود به.. فتقريبًا كان جميع اليهود يمرُّون بتلك المحطّة عند سفرهم، ذهابًا وإيابًا.
 ٤- المسافة من أورشليم إلى تلك المحطة في جنوب نهر الأردن شرق أورشليم، كانت تستغرق مَشيًا يومًا كاملاً، إذ تُقَدَّر بحوالي ٢٥-٣٠ كيلومترا وسط الجبال. والمتّجه شمالاً بعد ذلك إلى الجليل، يبيت أولا بتلك المحطة ثم تبدأ القوافل في التحرك شمالاً في صباح يوم الإثنين، حتى تصل إلى مشارف الجليل يوم الخميس أو ظهر الجمعة على الأكثر، قبل حلول السبت، الذي يبدأ مع غروب شمس يوم الجمعة.
٥- في الأعياد اليهودية كانت أعداد كبيرة من أهل الجليل تسافر لقضاء العيد بأورشليم، فيتحرّكون في قوافل ذات أعداد ضخمة معًا، في الذهاب والعودة.. وهكذا كان الربّ يسوع يذهب مع والديه إلى أورشليم للعبادة، عِدّة مرّات كلّ سنة.
٦- في الحادثة المذكورة عن مكوث الربّ يسوع في أورشليم، وعدم عودته مع الرفقة.. واضح أنّ هذا التصرّف كان مقصودًا منه، لكي يبقى في الهيكل لبعض الوقت.. ووارد جدًّا ألاّ ينتبه أحد من الرفاق لغيابه، لأنّ السيّدة العذراء مريم والقديس يوسف كانا وسط الأصدقاء والأقرباء بأعدادهم الكبيرة، وقد ظنّا أنّ الفتى يسوع مع الفتيان وسط الرفقة الكبيرة، كالمعتاد في كلّ زيارة.
 ٧- انتبهت السيّدة العذراء مريم لغياب الفتى يسوع مع وصول الحشد الكبير إلى محطّة التجمع عند جنوب نهر الأردن، بعد أنّ مرّ يوم كامل في السفر..
 ولأنّ السفر رجوعًا إلى أورشليم كان غير ممكن ليلاً لسبب مخاطر اللصوص، فقد باتا ليلتهما هناك، ثم عادا في اليوم التالي إلى أورشليم مع قافلة أخرى، ليَصِلا هناك في المساء، وهكذا انقضى اليوم الثاني. وفي اليوم الثالث بحثا عن الربّ يسوع، فوجداه في الهيكل يباحث الشيوخ، كما ذكر القديس لوقا في إنجيله..
 أرجو أن يكون هذا تفسيرًا منطقيًّا للسؤال؛ كيف أنّ القديسة العذراء والقديس يوسف لم يعثُرا على الفتى يسوع إلاّ بعد ثلاثة أيام..!