الأب رفيق جريش
الاغتراب هو إحساس الإنسان بأنه غريب عن نفسه، ثم غريب عن كل شىء آخر وانفصال الإنسان عن ذاته المخلوقة من الله جعله غريبا ومغتربا، ولقد صرح الفيلسوف والمفكر الفرنسى، جان جاك روسو فى القرن الـ 18، بأن الإنسان «أخفق فى تحقيق وجوده الأصيل».
وبالرغم من أنه كان يُرجع سبب ذلك الإخفاق إلى أمر آخر غير السقوط، بل كان يرفض فكرة الخطية، إلا أنه أدرك واقع هذا الإخفاق وتحدث عنه بوضوح. وقد أتى بعده هيجل، الفيلسوف الألمانى الشهير، ليؤكد بوضوح أن الإنسان منفصل، خارج عن نفسه، حين وضع لأول مرة مصطلح «الاغتراب» على خريطة الإنسان للتعبير عن هذه الحالة التى نعانى منها أنا وأنت.
إنه اغترابنا وتغربنا عن أنفسنا، والذى هو فى الأصل البُعد عن الله كما قال الليبرالى بول تيليك «إنه انفصال الإنسان عن وجوده الجوهرى، وعن الله الذى خلقه وشكله. وهو الأمر الذى صار طابعا مميزا للوجود الإنسانى منذ السقوط».
ويضيف تيليك قائلا: «وهكذا نجد أن حالة حياتنا الكلية عبارة عن اغتراب عن الآخرين وعن أنفسنا، لأننا مغتربون عن أساس وجودنا، لأننا مغتربون عن أصل حياتنا وهدفها. وبالرغم من أن البشرية ليست غريبة على الله، فإنها مغتربة عنه.
إن البشرية مفصولة عن أصلها»، إذًا فاغتراب الإنسان عن ذاته ليس إلا نتيجة لاغترابه عن الله.
إذًا فالإنسان بدون الله هو ذات مشوهة وغير موجودة حقيقةً. كما يقول عالم النفس شاختل: «إن المغترب عن ذاته لا يعرف من يكون ولا ماذا يريد»، ففى السقوط حدث تحور جذرى فيما هو الإنسان كجنس بشرى خلقه الله، إذ فى اللحظة التى وضع فيها الإنسان ذاته مركزا للكون فقد ذاته، فصار أجوف، متمركزا حول فراغ وعابدا للا شىء!، تماما كما الشجرة التى فقدت قلبها، جذرها، مصدر الحياة، ماتت وهى مازالت واقفة، صارت جوفاء، فارغة من الداخل، مجرد بناء خارجى هش وضعيف ومنفصل عن داخله، متروك عرضة للتيارات الخارجية.
وهذه الذات أو الوجود هى جوهر ما فقدناه، كبشر، بالبعد عن الله.
إن هذا الانفصال/ الاغتراب الداخلى المزدوج (انفصال الإنسان عن الله وعن ذاته) هو كارثة الإنسان ومشكلته الأولى. فهذا التلف والفصام الداخلى الذى أحدثه السقوط فى الكيان الإنسانى جعل الإنسان دائم البحث عن المعنى والهدف من وجوده (الذى فقده) دون فائدة.
وهكذا صار الإنسان (بين شقى رحى) فى معضلةٍ لا يجد لها حلاً، فهو من جهة لا يستطيع أن يحيا بدون أن يجد لحياته معنى أو غرضا مشبعا لوجوده، كاحتياج أساسى له.
ومن جهة أخرى فهو بسبب تلفه وفساده وانفصاله عن ذاته الأصيلة فى الله لا يستطيع أن يجد هذا المعنى المشبع له فى الحياة!!، والإنسان المؤمن بالطبع لا يجد الحل لهذه المعضلة فى لحظة واحدة من الإيمان، كما لو كان الإيمان مسا سحريا، بل إنه يرى لمحة منه فقط، لكن عليه أن يستمر عاما بعد عام فى رحلة العودة التدريجية إلى الحل من خلال إيمانه هذا، ويظهر عمق المشكلة فى استمرار ملاحقة التساؤلات للإنسان عن معنى الحياة، وعن معنى وهدف وجوده، إذ إنه لا يستطيع أن يعيش بدون معنى وغرض حقيقى ومُشبع يوجد لأجله، بواقع مشكلة الإنسان.
إن عبارات دارجة مثل: «زهقان، عايز أغير، ما تيجو نعمل حاجة مختلفة، كله محصل بعضه، دماغك، كَبّر …»، عبارات مثل هذه والتى كثيرا ما نسمعها دون أن نحلل معناها، هى مجرد انعكاس وإظهار للمعضلة الأصلية التى لا نريد أن نراها أو نتلامس معها، وهى المشكلة التى لا تجد حلا لفراغنا الداخلى واغترابنا عن أنفسنا، فالإنسان الذى يتغرب عن الله هو فى الحقيقة باحث عن ذاته وإتمام ذاته، وذلك يأتى بمعرفة الله الحقيقية، بعيدا عن المظاهر والتعصب، محاولا جعل هذه العلاقة أكثر حميمية لتكون علاقة حقة.
نقلا عن المصري اليوم