يسوع الذي أعرفه
القمّص يوحنا نصيف
من أجمل ما قرأت هذا الأسبوع، بعض المذكّرات الروحيّة، التي كتبتها الأخت الراهبة إيمانويللا (1908-2008م)، التي خَدَمَتْ في منطقة الزبّالين بالقاهرة، لسنواتٍ طويلة.. وقد اقتطفت لحضراتكم بعضًا من هذه المذكّرات الجميلة في هذا المقال:
يسوع الذي أعرفه أحبّني أولاً، أحبّني كما أنا.. فقيرة، ضعيفة، خاطئة.
لقد وُلِدتُ عام 1908 من والد فرنسي وأم بلجيكيّة متديّنة، ولما بلغتُ السادسة أخذتني أمي في ليلة عيد الميلاد إلي الكنيسة، وكم دُهِشت عندما رأيت في المذود طفلاً صغيرًا عاريًا نائمًا على القش..
فسألت أمي ماذا يفعل هذا الطفل؟
فقالت لي ألا تعرفينه؟ إنه يسوع الذي نزل من السماء لأجلنا..!
فاندهشت أكثر، وقلتُ: لماذا لا ينام على سرير جميل مثل كلّ الأطفال؟!
قالت لي أمي: إنّه يحب الفقراء، لذلك أراد أن يشاركهم حياتهم.
تركت هذه العبارة فيّ أثرًا لا يُمحى..!
مات والدي واختفى عن نظري إلى الأبد، وكنت أقول لنفسي كثيرًا: لو كان والدي هنا لحملني بين ذراعيه! وها يسوع مستعدّ أن يأخذني بين ذراعيه! لذلك قلتُ له من أعماقي إنّي أحبّك.. لو كنتُ معك وقتها لأحضرت لك البطانيّة لتَدفأ.
لقد فقدتُ السعادة والأمان بموت والدِي (مات غريقًا أمام عينيها)، وها سعادة وأمان أكبر يدخلان قلبي بحبّ يسوع لي. مِن تلك اللحظة تمنّيت أن أعيش فقيرة بين الفقراء مثله.
كنتُ أذهبُ مع والدتي يوم الأحد لأتناول بالفستان الأبيض، وأرجع سعيدة لآكُل الجاتوه.. لكن أمي قالت لي: إنّ شيئًا أهمّ يُسعدك؛ إنّ يسوع الذي يحبّك يدخل قلبك هذا اليوم.. فكنتُ أفكِّر: قلبي أنا؟! يا للجمال..!
بدأتُ أشعُر أنّ يسوع عريسي يحبّني أكثر من كلّ الناس؛ لقد مات حُبًّا فيّ. بدأتُ أنظر لمَن حولي بنظرة يسوع، فلا أراهم أشرارًا أبدًا، بل أرى الخير داخلهم.
إنّه الحُبّ الذي يجعل كلّ شيءٍ جميلاً.. فعندما أرى طفلاً يَضرِب ويشتِم آخر أضمّه في حُنُوّ إليّ، فأجده يهدأ ويهدأ حتى يبدو ملاكًا.
* "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه" (يو6: 56)
هذه الآية الذهبية لم تفارق ذهني أبدًا.. يسوع مستعد أن يدخل قلبي كلّ يوم، لذلك عزمتُ مِن قلبي أن أذهب للكنيسة كلّ صباح قبل المدرسة، وحتى نهاية عمري، مهما كانت الظروف. لقد ظنّ مَن حولي أنّ هذا اندفاع طفولي سرعان ما يهدأ، ولكن مضت الآن 75 سنة حتى كتابة هذه الكلمات، لم أتأخّر يومًا عن التناول من سرّ الإفخارستيا.
تُرى ما الذي يجعل فتاة صغيرة تستيقظ في الرابعة صباحًا، وتجري وسط الثلوج في الشتاء القارص، لتذهب للقُدّاس، ثم تعود لتذهب إلى المدرسة؟! وحتى في السبعين من عمري كنت أسير في المُقَطَّم وسط الخنازير، ورجليّ تغوص في أكوام الزبالة، لأذهب للكنيسة لأتناول، وكأنّي على موعد مع الحُبّ.. نعم وأيّ حُبّ؟ إنّه يسوع الذي يجذبني.. إنّه يُجَدِّد روحي الضعيفة.. فأشعر أنّ بي طاقة تجعلني أستطيع أن أدخل الحرب..!
ولكن هل يكفي أن أتناول كلّ صباح؟ إنّ يسوع يقول لي: كلّ ما فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم.. سأذهب معك يايسوع، وأشارك كلّ مريض وبائس حياته، وعندما أنحني لأضمد جراحاته أشعر أنّي ألمس جسد يسوع..!
* نحو سعادة أكبر:
كنتُ في الصباح أتناول، وفي المساء كانت الفُسَح ولِعب التنس ومقابلة الأصدقاء.. ثم ماذا؟!
إنّي أريد أن أُكرّس قلبي وروحي لك يا يسوع.. أعيش مع الفقراء والمساكين.. كان هذا النداء يناديني كلّ يوم.. فصرختُ مِن أعماقي: هل أنا أحبّك أم لا؟! لماذا أنتظر؟!
بدأت خِدمتي في الأماكن المحيطة، لكن هذا لم يشفِ غليلي.. إنّي أريد أكثر..
غادرتُ أوروبا إلى القاهرة، وكانوا يقولون يا للمسكينة!! الأخت إيمانويللا ستعيش حياة بائسة.. لم أفهم كلامهم لأنّي كنتُ في منتهى السعادة..!
قضيتُ سنوات تنقّلت فيها بين اسطنبول وتونس ومصر، وأخيرًا وجدتُ ضالّتي المنشودة في عشوائيات المُقَطَّم..!
لقد سمعت عن الزبّالين، وما هو معروف عنهم.. مجرمين ولصوص يعيشون في القذارة، حتى أنّ البوليس نفسه يبتعد عنهم.. هناك تعرفت على عائلة، وطلبت منهم تأجير حجرة لي، ولا تُتَصوّر فرحتي عندما جاءوا لي بعربة كارو، وضعت عليها سريرًا وكرسيًّا ولمبة جاز.
وبالرغم مما سمعته عنهم، إلاّ إنّي وجدتُ داخلهم قلبًا محبًّا سريع الاستجابة، فقد تغيّروا سريعًا بالحبّ وحده.
لقد شاركتهم غذاءهم المفضل “طبق الفول”، وجلستُ معهم على الأرض، وغسلت رجليّ صلاح وجرجس ومحمد؛ لأُخرِج منها الزجاج أو مسمار أو غيره، مِمّا يَدخُل أرجلهم، وهم يسيرون حُفاةً، أو يلتقطون من مخلّفات الأطعمة غذاء لهم من بين أكوام الزبالة..
لقد وجدتهم أقرب إلى الله من كثيرين.. عندما تُرَنِّم فوزيّة، تنتقل إليك سعادتها.. وعندما يصرخ جرجس قائلاً: "يارب ارحمني أنا الخاطئ" يقولها من أعماقه فيستنير وجهه. لقد تعلّمت أن أصرخ مثله عندما أقع في شِدّة، وأقول: يارب ارحمني أنا الخاطية".. إنّها أسعد أيام حياتي..!
عندما تطرق الباب في نصف الليل "أم حلمي" تصرخ: "اِلحقيني يا ميس، قبضوا على حلمي".. أذهب للظابط لأشرح له الأمر، فيعود لبيته في الصباح.
لقد عشتُ مع أخوتي الزبّالين 22 سنة، لم أتركهم إلاّ لأسافر إلى أوروبا كي أجمع لهم الأموال من الأغنياء لأبني المدارس والمستشفيات والنوادي. ثلاث مرات منفصلة أخذتُ شيكًا بمليون جنيه من أجلهم.
عندما أنظر إلى حياتهم بعد أن تغَيَّرَت كثيرًا، أُدرك أنّ بعد الصليب دائمًا توجَد قيامة ونصرة، فأقول لنفسي: يا إيمانويللا.. إلي الصليب مع يسوع قومي، جاهدي حتى آخر نسمة في حياتك، إنّ القيامة آتية والسماء مفتوحة..!
القمّص يوحنا نصيف