أحمد الجمال
حظى مقال الأسبوع الفائت عن الأم مارى جورجيت حبشى والأم بدور بتعليقات وفيرة على الفيس بوك وعبر الهاتف.
وكانت بهجتى بعد حيرتى، إذ كتبت أننى قد أكون فقدت الصلة برهبانية قلب يسوع، ولكننى تلقيت مهاتفة من سير نادية سعيد، الرئيس الحالى للرهبانية، تثنى فيها على ما كتبت وعلى ما أبديته من مشاعر.
وأنتقل إلى ما وعدت به؛ وهو التعريف برهبنة قلب يسوع المصريات، حيث لا يمكن لأحد إنكار دور الكنيسة القبطية المصرية فى تأسيس الرهبنة على مستوى العالم، وهو أمر يعد من أهم ما قدمته مصر للبشرية وللحضارة الإنسانية، حيث الارتباط وثيق بين الرهبنة ومقاومة الاحتلال الأجنبى الرومانى لمصر ومقاومة الطغيان الوثنى والتمكين لعقيدة التوحيد الإلهى.
ولعل من يقدر له أن يقرأ بعض تفاصيل ووقائع تلك المرحلة التاريخية سيعرف حجم التضحيات وعدد الشهداء الذين قدمتهم مصر فى مواجهة الاحتلال والطغيان الوثنى الرومانى، وقد تضمنت موسوعة المسيحية عبر تاريخها فى المشرق فصلًا كتبه المؤرخ الفرنسى بيار مارافال، الدكتور فى تاريخ الأديان وتاريخ العصور الوسطى، الحاصل على الدكتوراة فى التخصصين وإجازة فى اللاهوت، وهو أستاذ تاريخ الأديان فى جامعة باريس الرابعة، ويشير فى دراسته عن المسيحيين فى الشرق- خلال القرنين الثانى والثالث- إلى أن اليهود استحصلوا لأنفسهم على نظام خاص يسمح لهم بممارسة شعائرهم فى الإمبراطورية الرومانية، بينما كانت المسيحية عرضة للملاحقات والاضطهادات، فكان أول الاضطهادات القوية العنيفة سنة 112 ميلادية فى عهد الإمبراطور تراجان، وتصاعد بضراوة فى بداية القرن الثالث، حيث سيق مسيحيون عديدون من كل أنحاء مصر عام 202، بما فى ذلك طيبة فى الصعيد، ويستمر الاضطهاد والقتل دون توقف حتى طال الأكليروس «رجال الدين» عامى 257 و258، لتأتى قمة الاضطهاد فى عهد دقلديانوس الذى افتتح عهده سنة 303 بمنشور يقضى بهدم الكنائس وإتلاف الكتب المقدسة وتجريد المسيحيين رفيعى القدر من كل منصب شرفى، ثم حبس رؤساء الكنائس وإجبار الجميع على تقديم الأضحيات للآلهة الوثنية، وهناك إحصائيات تقريبية لعشرات الشهداء، ناهيك عن التعذيب المروع، وكان المسيحيون- وفق ما كتبه المؤرخ الأثينى اليونانى- هم وحدهم من بين كل الشعوب الذين أدركوا الحقيقة، لأنهم عرفوا الله خالق وصانع كل شىء.
ومن رحم هذه المأساوات ولدت الرهبنة فى مصر، وكان أول من نظم الحياة النسكية والرهبانية، وأول من دُعى راهبًا وأبًا لجميع الرهبان هو القديس أنطونيوس الكبير، الذى كان شابًا غنيًا، يملك أبوه ثلاثمائة فدان من أجود الأطيان فى صعيد مصر، وعندما مات أبوه نظر إلى جثمانه المسجى وخاطبه قائلًا: «أين سلطانك وغناك؟ لقد خرجت من هذه الدنيا كارهًا ولكننى سوف أخرج منها بإرادتى»، وعاش بوجدانه فى قول السيد المسيح للشاب الغنى: «إن أردت أن تكون كاملًا اذهب وبع كل ما تملك وأعطه للفقراء وتعال اتبعنى». وقرر أنطونيوس أن يفعل ذلك بعد أن سلّم أخته لأحد بيوت العذارى.
وفى مواجهة الاضطهاد بالقتل والتعذيب، اتسع لجوء الناس للأديرة وعمق الصحراء، وتطورت الحركة الرهبانية لتصبح لها أنظمة، وليكون جزء من ممارساتها هو خدمة المجتمع.
ومن مصر انتقلت الرهبنة لكل المعمورة وتشعبت، وكان من أفرعها رهبنة قلب يسوع المصريات فى الكنيسة الكاثوليكية بمصر، حين حضرت عام 1912 سبع راهبات كعضوات فى رهبنة القلبين الأقدسين بلبنان إلى مصر، بناء على طلب الكنيسة القبطية الكاثوليكية، وكان أول عمل لهذه الرهبنة هو افتتاح مدرسة فى طهطا بمحافظة سوهاج، ثم توالت الافتتاحات بمدرسة أخرى فى سوهاج فى أكتوبر 1914، وفى مصر الجديدة عام 1935، كما افتتحت مستوصفًا خيريًا بالفجالة عام 1937.
ولرهبنة قلب يسوع أهداف نبيلة، على رأسها تربية وتكوين النشء فى وادى النيل، ويوجد حاليًا حوالى 17 ديرًا لراهبات قلب يسوع فى مصر والسودان تقدم دورًا عظيمًا فى التعليم وخدمة القرى منذ تأسست فى مصر خلال أكتوبر 1895، وتطورت ليكون لها دير ومدرسة القديس يوسف بمصر الجديدة، ومدرسة القديس يوسف الظهور بالعباسية فرنسى بنات، وكلية نوتردام دى سيون حضانة وابتدائى وإعدادى وثانوى فرنسى بنات، ملحقة بها مدرسة ابتدائى إنجليزى شبه مجانية بالإسكندرية، ومدارس فى الإسماعيلية وفى العبور وفى بنى مزار وفى طهطا وفى سوهاج والغردقة وأسيوط وطما والأقصر والبحر الأحمر.
إن المساحة لن تتسع للوفاء بحق أولئك الرواد فى الحركة الرهبانية المصرية، الذين اهتموا بخدمة المجتمع دون تمييز أو تعصب أو إقحام للعقيدة والمذهب فى برامج تعليم الطلاب، ومعظمهم من المسلمين، حتى صار المرء يباهى بأنه تعلم فى مدارس رهبان وراهبات ولم يتعرض لحظة لأى غسيل دماغ عقيدى دينى.
نقلا عن المصرى اليوم