مدحت بشاي
يذكر الكتاب المقدس- في أمر الاعتزاز بالأوطان ــ عن مكان حياة السيد المسيح: "وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ .." (إنجيل متى 13: 54)، والكنيسة القبطية العتيدة تضع اسم الوطن دومًا لتعريفها "الكنيسة المصرية".. والمقولة البابوية الشهيرة "مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل هي وطن يعيش فينا" جاءت للتأكيد على مفهوم الولاء الكامل للوطن مهما كانت تحديات صناعة التقدم و معوقات إقامة مجتمع المحبة والتسامح والسلام ..
ثم كان الخيار الوطني لقداسة البابا تواضروس الثاني عندما أطلق شعار "وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن" ردًا على هجمات جماعات التطرف الشريرة عندما قامت بحرق وهدم ونهب الكنائس بشكل همجي بربري إثر عملية فض إمارة "رابعة العدوية" وقرينتها "النهضة" في إطار دور الكنيسة لتهدئة روع الأقباط وغضبهم في مرحلة خطيرة، وهو الخيار والشعار الذي أشاد به الرئيس عبدالفتاح السيسي في أكثر من مناسبة كموقف من جانب كنيسة الوطن كمؤسسة مصرية وطنية كان قد وصفها التنويري العظيم "طه حسين" بمقولته الشهيرة "الكنيسة المصرية مجد مصري قديم" ..
وإن كانت أيضًا "الكنيسة الوطن" بالاعتقاد الروحي للمواطن المسيحي فهي وطن لكل المشاهد الروحية المهمة في حياته (فضلًا عن أنها مكان تواصله مع خالقه)، بداية من مشهد الميلاد الروحي وحتى مشاهد الخطوبة والزواج ووصولًا إلى المشهد الختامي بالصلاة على جثمانه، وعبر رحلة الحياة يتقدم فيها إلى الاعتراف بخطاياه، والتناول ومتابعة سيامة كل الرتب الكهنوتية والأنشطة الروحية الموسمية وغيرها من الفعاليات الروحية والكنسية..
أما عن كنيسة الوطن الأم، فقد كان من الأمثلة الطيبة في مجال العطاء الوطني للمؤسسات الدينية، افتتاح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مستشفى "مصر المحبة" بمدينة "بني مزار" في المنيا منذ 3 أعوام بتكلفة 500 مليون جنيه على أرض مساحتها 411 ألف متر، ويضم المستشفى 211 سريرًا، و7 غرف للعمليات الفائقة، 48 سرير عناية مركزة، 23 حضانة، 24 وحدة غسيل كلوي، 19 عيادة متخصصة.. إلى جانب أجهزة الأشعة الكبرى والصغرى ومعمل تحاليل، 11 سرير طوارئ بمستوى عال من الكفاءة الميكانيكية.. ونظام إداري تقني معاصر في عمليات الحجز ومنح التذاكر للمرضى..." ..
أرسل البابا تواضروس الثاني، رسالة محبة لأهل الصعيد، مؤكدًا نجاح الكنيسة في إقامة أكبر مستشفى خدمي اقتصادي بمدينة "بني مزار" يحمل اسم "مصر المحبة"، لخدمة أبناء الصعيد..
قال البابا تواضروس في حينها، عبر رسالة تم بثها خلال حفل الافتتاح، أن هذا المستشفى هو ثمرة المحبة والاهتمام والتعاون بين مصريين داخل وخارج مصر، مؤكدًا أن مصريين مقيمين داخل ٥ قارات شاركوا بالتبرع. .
نعم، لم تتوقف مؤسساتنا الدينية الإسلامية والمسيحية عن العطاء والبناءـــ وبشكل خاص في أحياء ومناطق يسكنها أهالينا البسطاء ورقيقي الحال- عن إلحاق الكنيسة والمسجد بمستوصفات تقدم الخدمات العلاجية البسيطة والعاجلة والمهمة، حيث إمكانيات مستشفياتنا العامة الحكومية البشرية والعلمية والمعملية باتت غير قادرة على الوفاء بدورها الكامل لأهالي تلك المناطق، والبديل المستحيل هو مستشفيات الفندقة (7 نجوم) التي يستحيل تنعمهم بسبل الاستشفاء بها نظرًا للمقابل الجنوني في تكلفة العلاج!!!
وعليه، فإن مشاركة مؤسساتنا الدينية في إنشاء مثل تلك الصروح الطبية، وفي المناطق الأكثر احتياجًا، أمر عظيم وواجب وطني رائع ونبيل، حيث توجه تبرعات أهل الخير في الداخل ومن الخارج لدعم منظومات التعليم والصحة والخدمات اليومية الملحة بدلًا من الاكتفاء ببناء دور العبادة (7 نجوم)!
لم يعد من المستساغ وجود مدارس فقيرة الإمكانات لطلاب تنفجر بأعدادهم قاعات الدرس المطلية بالجير، ووجود مستشفيات حكومية ينتظر على أبوابها مرضى في انتظار الدخول والعلاج أو الموت والاختفاء، بينما تجاور تلك المنشآت دور عبادة يكفي ثمن مسطحات الرخام وثريات الإضاءة ما يغطي نفقات علاج وتعليم أهالينا بالآلاف في تلك المناطق.. والله يبقى عيب علينا لو لم نشجع تلك الجهود والمساهمة في تعظيمها دعمًا وتأكيدًا على الدور الروحي والإنساني النبيل لتلك المؤسسات الدينية.
نقلا عن الدستور