كمال زاخر
حاولت عبر سطورى السابقة أن اقترب من رتبة "الأسقف" بحسب ترتيب كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وقد واجهنى سؤال "ولماذا الأسقف تحديداً؟".
ـ  ربما لأنه يشغل موقعاً متقدماً فى الترتيب الهيراركى للإكليروس.
ـ وربما لأنه يحمل لقباً هو لرب المجد يسوع المسيح بحسب بطرس الرسول (1بط 2: 25)
ـ وربما لفداحة المسئولية التى تثقل كاهله، بحسب صلوات رسامته وتجليسه.
ـ وربما لارتباكات المناخ العام الاجتماعى والسياسى واللذان لم ينجحا حتى اللحظة، وبامتداد عقود، فى القبول باندماج الأقباط فى كليهما، رغم كل ما يملأ الفضاء العام من مقولات واحاديث بل وقوانين ونصوص دستورية عن المواطنة والمساواة وعدم التمييز.
 
وتقفز أمامى مجدداً مقولة الدكتور ميلاد حنا ـ أحد رواد الدعوة للمواطنة والعدالة ورفض المحاصصة والتمييز سواء السلبى أو الإيجابى ـ "الدولة اختزلت الأقباط فى الكنيسة، واختزلت الكنيسة فى الإكليروس، واختزلت الإكليروس فى البابا"، وهو الأمر الذى اراح طرفى المعادلة، الدولة والكنيسة، لكنه فى ذات الوقت جعل من الأسقف، وهو بحسب العرف الكنسى "بطريرك فى ايبارشيته"، جعل منه مسئولاً عن رعيته اجتماعياً وسياسياً، ولعلنا حين نستحضر اجواء الترشح للإنتخابات البرلمانية نلحظ أنه فى اختيار المرشحين الأقباط، فى قوائم الأحزاب أو فى المعينين بحسب الدستور، يستطلع رأى الأسقف كل فى دائرته الجغرافية، ولعل صورة الصفوف الأولى فى احتفالات الكاتدرائية بالأعياد المتلفزة تشى بهذا وبقدر حرص الساعين للفوز بمقعد أو موقع سياسى من نشطاء الأقباط لأن يوجدوا فى تلك الصفوف وكأنها رسالة تأكيد حظوتهم ورضا القيادات الكنسية عنهم.
 
نحن إذن أمام موقع كنسى له ثقله وأهميته التى تتجاوز البعد الروحى والرعوى، وتضعنا أمام أكثر من سؤال عن مواصفات وتكوين من يشغله، والتى لم تعد قاصرة على المواصفات التى كانت الكنيسة تحرص عليها قبلاً، التقوى والروحانية والزهد وحسن التدبير، لتمتد الأسئلة إلى الجماعة التى يتم الاختيار منها، والتى انحسرت وانحصرت فى الجماعة الرهبانية والأديرة، بعد أن كان الاختيار يمتد ليشمل المتبتلين من غير الرهبان بل والعلمانيين المشهود لهم بحسن السيرة والتدبير، بل وتجاوزت الأقباط ومثالنا البطريرك إبرآم بن زرعة، (975 ـ 979م.)، كان سورياً وتاجراً علمانياً، والمشهود له بمحاربة السيمونية، وقاوم الى حد الحرم ظاهرة "السرارى" وفى حبريته حدثت معجزة نقل جبل المقطم، بحسب رصد السنكسار لسيرته، رغم قصر مدة بطريركيته (ثلاث سنوات وستة أشهر)، وقبله بزمن ممتد كانت الكنيسة تختار اساقفتها وبطاركتها من علماء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وذهبت ورائهم حين حملوا اسفارهم ومخطوطاتهم هرباً من استهدافهم ولجأوا للأديرة واستقروا فيها، ومن هنا جاء تفضيل الاختيار من سكان الأديرة.
ومن الطبيعى أن حالة الأديرة ومن ثم الرهبان تنعكس على من يقع عليه الإختيار، وكنا قد عرضنا للنذور التى يلتزم بها طالب الرهبنة حال قبوله راهباً؛
* البتولية،
* العزلة،
* الفقر الإختيارى،
* النسك، 
ويتوزع وقته بين الصلاة واتمام التزاماته الروحية وفق مشورة الأب الذى يتتلمذ عليه، وبين العمل بما يكلف به وفق ترتيب الدير، حتى لا يصاب بالضجر، وقد تطورت الأعمال التى تسند للراهب والتى كانت فى بدايات الرهبنة وفق سيرة الآباء المؤسسين، أعمالاً بسيطة كعمل السلال ومنتجات الخوص ثم تطورت مع الزمن لتصبح أعمال الزراعة واستصلاح الأراضى، وتربية الدواجن والماشية، واعمال التصنيع الزراعى. وبجوارها كان بعض الرهبان يكلفون بنسخ المخطوطات والتى تطورت إلى تحقيقها وطباعتها بتطور واستحداث الات الطباعة، اضافة إلى ما يقوم به رهبان الدير من تأليف وترجمة وطباعة الكتب المعاصرة.
 
وتعد التلمذة هى سر بقاء الرهبنة وانتقال قيمها وخبراتها من جيل إلى جيل، والتلمذة ليست فقط على التعاليم بل هى "تلمذة معايشة" ونقل خبرة الحياة فى المسيح، التى هى غاية الراهب عندما يقصد الرهبنة، ولعلنا نجد ما يؤكد ذلك فى قصة القديس انطونيوس مؤسس الرهبنة، الذى انشغل فكره وقلبه بتبعية المسيح عندما سمع الآية «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». الرهبنة بهذا المنظور سعى للكمال باتباع الرب يسوع المسيح، بغير مزاحمة.
التلمذة فى الرهبنة هى معبر وممر يصل بالراهب إلى التلمذة للمسيح، وعلامتها "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضًا لبعض" (يوحنا 35:13). 
 
والتلمذة فى الجماعة الرهبانية مشروطة بالترك "كل مَن ترك بيوتًا، أو أخوة أو أخوات، أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولًا، من أجل اسمي، يأخذ مائة ضعف، ويرث الحياة الأبدية" (متى 29:19).
 
التلمذة تعنى وجود مدبرين شيوخ يملكون نعمة العطاء ويجد الرهبان عندهم ما يبنى حياتهم الروحية وما يعينهم على مواجهة الحياة فى البرية ومتاعبها وحروبها، حتى يكتمل تكوينهم الذهنى والروحى.
 
الإرتباكات التى طالت منظومة الرهبنة فى العقود السبعة الأخيرة انعكست على الحياة الديرية وانعكست على مخرجاتها، فرغم وجود النذور الرهبانية إلا أنها لم تعد منضبطة،
 
* فالعزلة كسرتها شبكة الطرق التى امتدت حتى أبواب الأديرة، والعمران الذى زحف الى تخومها، وتطور وسائل النقل،  
* والسكون والاختلاء تهددهما الرحلات اليومية التى تقتحم الأديرة وما تحمله من صخب وضغوط تهدد المكان الحجر والبشر،
* ومعادلة العبادة والعمل اختلت بفعل التوسع فى الاستزراع والتصنيع الزراعى والمشروعات المكملة وكلها تستنزف وقت ويوم الراهب، 
* والتلمذة كادت تختفى باختفاء الشيوخ، وبتركيز كل الخيوط فى يد اسقف الدير، ومعايير الاختيار من بين الرهبان للأسقفية تفتقر للانضباط والتدقيق، يكفى أن يكون رئيس الدير راضياً عمن يقدمه لأولى الأمر، فيما يتم التغاضى عن نضجه الروحى والنفسى والذهنى، وكيف ينضج وهو لم يمكث فى الدير فترة كافية لاكتمال تكوينه.
 
وكنا قد اشرنا إلى تجربة مدرسة الرهبان التى لم تدم طويلاً وأغلقت مع مطلع الستينيات من القرن المنصرم، (1929ـ1961م.)، تاركة خلفها العديد من علامات الاستفهام المعلقة بغير اجابة، وفى مرحلة لاحقة استعيض عن التلمذة اللاهوتية والروحية بالتهليل لرهبنة حملة الشهادات الجامعية فى تخصصات مدنية خاصة فيما يسمى بكليات القمة، وكان لها انعكاسات سلبية على ادارتهم لايبارشياتهم أو المهام الموكولة لهم فى دوائر الأسقف العام، لعل ابرزها الاعتداد بالرأى وعدم قبول المشورة من شيوخ الكهنة وحكماء الرعية. وانتقال الولاءات من الكنيسة للأشخاص، ومازال النزيف مستمراً.
* هل خفوت أو افول التلمذة مرده اقامة اسقف لكل دير؟، فيصير هو وحده مصدر التعليم والتلمذة، مع العلم بأن الأديرة القديمة لم يكن لها اسقف بل كانت تُلحق بإحدى الإيبارشيات لتوفير مصدراً يغطى احتياجاتها، فيما يدير الدير راهب لا تزيد درجته الكهنوتية عن "قمص"، ويمكن تغييره بأخر حال مرضه أو اخفاقه فى حفظ سلام الدير.
 
* أم أن خفوت وافول التلمذة سببه الرهبان انفسهم فى أجيال معتدة بنفسها ولا تهتم بالتكوين الذاتى ولها فى الرهبنة مآرب أخرى؟.
خريطة الأديرة نفسها بحاجة إلى اعادة فحص واعادة ترتيب، فلدينا اديرة متخمة بالموارد فيما تئن أديرة أخرى من شظف العيش، وبالكاد توفر الحد الأدنى لاحتياجاتها، لذا تسعى لجذب الرحلات اليها وتتحمل ما تجلبه معها من صخب ومتاعب للمكان وللرهبان، لذا فالكنيسة بحاجة إلى شجاعة اعادة ترتيب المنظومة المالية للأديرة بحيث تفصل بين ملكية الدير للمشروعات وبين ادارتها، وتنشئ الكنيسة مجلساً أعلى للرهبنة، يحق له جمع ايرادات الأديرة المنتجة فى صندوق مركزى، وتقوم باعادة توزيع حصيلته على كافة الأديرة كل بحسب احتياجه. وهو أمر سيخفف عن الأديرة اعباء كثيرة.
ولعل مجلس الرهبنة المقترح يدرس توفير آلية لإعداد الرهبان قبل رسامتهم اساقفة بما يتفق واحتياجات الكنيسة والأجيال الجديدة التى تتعامل مع وفرة المعلومات عبر وسائل وتقنيات الثورة الرقمية وتحاصرهم وتكاد تقتنصهم خارج دوائر الإيمان.
راحة وسلامة الكنيسة وقدرتها على اداء رسالتها تبدأ من الأديرة.
ويبقى السؤال :
أيها الأسقف من أنت؟!