عاطف بشاي
«لا تحزن.. وقِفْ فوق الجرائد التى هاجمتك ستجد نفسك ارتفعت أمام شباك التذاكر».. العبارة السابقة قالها أديبنا الكبير «نجيب محفوظ» للمخرج الشهير «حسن الإمام»، تعليقًا على الهجوم الضارى، الذى تعرض له من النقاد بعد عرض أفلامه المأخوذة عن «نجيب محفوظ»، وهى ثلاثية «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية»، رغم النجاح الجماهيرى الجارف الذى حققته تلك الأفلام، التى أسند المخرج كتابة السيناريو والحوار لها إلى كُتاب سيناريو كبار، مثل «يوسف جوهر» و«محمد مصطفى سامى» و«ممدوح الليثى»، وكان الاتهام العاتى بأنه مخرج إباحى يروج للفحشاء والابتذال والعرى والرذيلة فى أفلامه غير الأخلاقية، التى تحتشد بالراقصات العاريات والعاهرات الخليعات.. والعوالم المتهتكات فى العوامات الماجنة بغية استدراج جماهير النظارة المتعطشين للفرجة الرخيصة والإثارة الجنسية المنحطة.
وبناء عليه، فقد أطلقوا عليه صفة «مخرج العوالِم»، الذى أساء إساءة بالغة إلى فكر «نجيب محفوظ» العميق.. ودمر رؤيته الفنية والأدبية الفذة.. وأطاح بالبناء الدرامى لرواياته القائمة على أبعاد سياسية واجتماعية وفلسفية عظيمة تزين أعماله الأخاذة ذات الدلالات والرموز والإسقاطات والمعانى العميقة.
المفارقة الغريبة والمدهشة أن هؤلاء النقاد، الذين هاجموا «حسن الإمام» لإفساده روايات «نجيب محفوظ» هم أنفسهم الذين هاجموا «نجيب محفوظ» لنفس الأسباب.. فقد عانى أستاذنا الكبير كثيرًا من الافتراءات الفجة والاتهامات الباطلة الخلقية البغيضة من جميع الجهات والأطياف، من أهل اليمين واليسار من النقاد الكبار والصغار من أصحاب الرأى ومُدَّعِى المعرفة.. من السياسيين والظلاميين والتكفيريين.. من الصحفيين اللامعين ومن الأرزقية الأفاكين، فاتهموه بآرائه المتطرفة فى وجهات نظره التاريخية القاصرة ومهاجمته لليساريين غير المنصفة ولثورة يوليو (1952) الاشتراكية و«عبدالناصر»، وغلبة الإباحية والانحلال الخلقى فى أعماله.. وهى نفس التهمة التى ألصقها المتطرفون الدينيون وكتائب المتطوعين وأشاوس المحتسبين، وفيالق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ودعاة ازدراء الفن والجمال والمرأة، الذين يبكون لتفشى الانحراف الأخلاقى.. وشيوع الرذيلة ونشر الفحشاء فى بلادنا الطيبة، التى تؤمن بشعارات الآداب العامة والأخلاق المرعية والفنون النظيفة والإبداعات المعممة والأفلام الخالية من القبلات مع الممثلات السافرات العاريات الفاجرات.
والحقيقة التى يفرضها ضميرنا الفنى أن «حسن الإمام» ظُلم ظلمًا بيِّنًا فى الادعاءات المتهافتة والمغلوطة فى الإساءة إلى أدب «نجيب محفوظ»، بل المدهش فى الأمر أنه يبدو أن هؤلاء المتهمين لم يقرأوا قراءة متأنية وفاحصة لروايات «نجيب محفوظ»، التى توضح أن «حسن الإمام» نقل أفكار وأحداث ومضمون ومحتوى تلك الروايات بكل الأمانة والصدق برؤية فنية تبرز قدراته التعبيرية الخلاقة ومعالجاته الإبداعية المميزة وبراعته فى تجسيد المعانى والإيحاءات وتفاصيل المضمون بأبعاده المختلفة.. ولا غرو، فهو واحد من أهم المخرجين المصريين فى التاريخ السينمائى.
■ ■ ■
بمناسبة الهجوم النقدى الصارخ ضد «حسن الإمام»، أعود بذاكرتى إلى عام (1972)، وهو زمن عرض فيلم «خلى بالك من زوزو»، الذى أخرجه «حسن الإمام» عن سيناريو وحوار وأغانى «صلاح جاهين» بطولة «سعاد حسنى» و«حسين فهمى» و«تحية كاريوكا» و«سمير غانم»، ويدخل هذا الفيلم الموسوعة القياسية للأرقام، فقد كان على رأس عشرة أفلام فى تاريخ السينما المصرية تحقيقًا للإيرادات، حتى استمر عرضه حتى 6 أكتوبر (1973)، ولولا أن حرب أكتوبر المجيدة قد بدأت، فقد كان مقدرًا له أن يستمر حتى (1974) فى دار عرض سينما أوبرا.. والأرقام تدل على تميزه بجماهيرية عريضة.
يتناول فيلم «خلى بالك من زوزو» قصة «زوزو»، الطالبة الجامعية، ابنة العالمة «نعيمة ألماظية»، والتى تقطن معها بشارع «محمد على».. وتحاول إقناع والدتها بألّا تجبرها على الرقص فى الأفراح، وتتركها تتفرغ لدراستها الجامعية.. لكن الأم تعلم أن إمكانيات «زوزو» فى الرقص رائعة، وهى خير تعويض لتقاعد الأم كراقصة، وهى مصدر رزق الفرقة.. فى الجامعة تتعرف «زوزو» على المخرج المسرحى «سعيد»، «حسين فهمى»، أثناء ندوة معه.. تنشأ بينهما علاقة حب.. يفسخ على أثرها خطبته من «نازك»، وهى ابنة زوجة أبيه، التى تكيد فى محاولة كشف «زوزو» ليس فقط أمام «سعيد»، بل أيضًا أمام زملائها.. تذهب إلى شارع محمد على، وتتفق مع فرقة «نعيمة ألماظية» على إحياء حفل عيد ميلاد فى منزل «سعيد»، بشرط أن تُحيى الحفل «نعيمة ألماظية» بنفسها، وفى اليوم الموعود تقوم «نعيمة» بالرقص، ويسخر منها المدعوون.
«زوزو»، التى تجد أن والدتها تُهان أمامها، تقرر إحياء عيد الميلاد بدلًا منها، بل تقرر ترك الجامعة، والعمل كراقصة فى شارع الهرم.. لكن «سعيد» لا يتخلى عنها، ويحاول إقناع «زوزو» بالعودة إلى الجامعة وترك مهنة الرقص، وينجح فى ذلك بمساعدة زملائها.
هوجم الفيلم من النقاد، الذين عصفوا به بالعديد من الاتهامات ذات القوالب الجاهزة والكليشيهات المعتادة، التى تتصل بتزييف الوعى الجماهيرى وإفساد الذوق العام وتدمير الحس الوطنى وتحطيم الروح المعنوية للشباب منذ هزيمة (67) وتلطيخ ثوب الحرم الجامعى بوجود الراقصة اللولبية الماجنة «زوزو» فى رحابه، والانتصار لهز البطن والأرداف العارية.. والإساءة إلى عقل ووجدان المتلقى.. إنه مخدر مخطط لإلهاء الجماهير عن فداحة هزيمة (67).. متغافلين أن الفيلم يحمل رؤية سياسية واجتماعية واضحة وجلية، فالبطل هنا يدافع عن شرف البنت العصرية «زوزو»، المتهمة بأنها سقطت فى عالم الغواية، فى مواجهة التشدد الدينى، الذى أطل بوجهه ليفرز فيما بعد تيارًا من الجماعات الإرهابية.. وأن المخرج الكبير «حسن الإمام»- كما يرى الناقد أحمد عبدالفتاح- نجح فى مزج الحب بالوعى، والأغنية بالتحدى، والرقصة بالألم.
نقلا عن المصرى اليوم