صلاح الغزالي حرب
التعليم هو السبيل إلى التنمية الذاتية وهو طريق المستقبل لكل المجتمعات وهو حجر الأساس الذى تقوم عليه المجتمعات المستنيرة، كما أنه من أساسيات علاج مشكلة الفقر وتحقيق التقدم المستدام.. وهناك رابط قوى بينه وبين تحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعى وتكوين الشخصية وتحقيق المساواة بين جميع الأفراد.. وقد جاء فى المادة (19) من الدستور المصرى أن التعليم حق لكل مواطن وتلتزم الدولة بتوفيره وفقا لمعايير الجودة العالمية، والتعليم إلزامى حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة التعليمية وفقا للقانون، وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى لا تقل عن 4% من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية.
وأنا وجيلى كله وأجيال كثيرة وراءنا تعلمنا فى مدارس حكومية أفضل تعليم وبالمجان، وكانت كلمة التعليم الخاص كلمة مخجلة تعنى عدم قابلية الطالب للتعلم، لكن ومع مرور الزمن والزيادة غير المنضبطة فى السكان وزيادة تكلفة العملية التعليمية الحديثة وبداية عصر الانفتاح العشوائى فى عهد الرئيس السادات، يرحمه الله، مع هجرة الكثيرين إلى الخارج بدأت تظهر تدريجيا علامات التفاوت الطبقى البغيض بين فئات المجتمع، وبدأت تتكاثر المنتجعات والكومباوندات والتى استدعت وجود مدارس خاصة ودولية وعالمية فى الوقت الذى تراجعت فيه المدارس الحكومية التى تعلمنا فيها ووصل الأمر الى حد خلو فصول الثانوية العامة من كل المدارس تقريبا نتيجة سيطرة أباطرة الدروس الخاصة ومن المضحكات المبكيات أن الوزارة قد سمحت لهذه المدارس أن يدفع كل طالب لم يدخل المدرسة بالتقدم لامتحان الثانوية بعد دفع غرامة مالية لإعادة القيد!.
أما عن المدارس الخاصة وغيرها من غير الحكومية فحدث ولا حرج.. الأسعار المغالى فيها بعيدا عن أى رقابة حقيقية.. وجلسات الاستماع والمقابلات الشخصية مدفوعة الأجر للنظر فى إمكانية قبول التلميذ فى المدرسة ابتداء من الحضانة! وإهمال تدريس اللغة العربية والدين فى الكثير من هذه المدارس بالمقارنة مع اللغات الأجنبية، والذى أدى إلى زيادة الفجوة بين التلاميذ وبعضهم إلى حد مخيف.. ومما يزيد من الفجوة بين التلاميذ الاختلاف الكبير بين مواعيد بدء الدراسة ونهايتها بين هذه المدارس والأخرى الحكومية وهو أمر غير مقبول.
وقد حاولت الدولة أن تنهى هذا الوضع السيئ، وتم تعيين د. طارق شوقى وزيرا للتعليم، وكنت أنا من المؤيدين بشدة لهذا الرجل الذى لم أره ولم أتعامل معه من قبل، لكنى تابعت تصريحاته يوم كان عضوا فى المجلس الاستشارى العلمى لرئاسة الجمهورية بخصوص التعليم ومشكلاته وأفكاره فى هذا المجال والمعروف أنه يحمل شهادة الدكتوراة فى الهندسة الميكانيكية، وكان عميدا لكلية الهندسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما تبوأ منصب مدير مكتب اليونسكو الإقليمى فى الدول العربية.
.. وبالفعل فقد بدأ مرحلة النهوض بالتعليم على أساس علمى مدروس وقد بذل جهدا كبيرا لا يمكن إنكاره، وأحدث تغييرات جوهرية فى العملية التعليمية والهدف منها والذى كنا نقصره على تسلم شهادة النجاح! ومع الأسف، وكما يحدث مع كثير من الوزراء، فإن الحس السياسى المفقود أدى إلى غضب الكثير من أولياء الأمور والذين من حقهم أن يناقشوا الأفكار التى يحملها الوزير حول مغزى ومعنى والهدف من التعليم.. كما أنه تسرع فى إدخال التابلت- وهو من الضروريات الحديثة للبحث والتعلم- وهو لا يعلم أن البنية الأساسية لمعظم المدارس فى الريف والصعيد تفتقد إلى مقاعد لجلوس التلاميذ، ناهيك عن شبكات الإنترنت.. وتم التغيير الوزارى، وجاء د. رضا حجازى والذى كان وقتها نائبا للدكتور طارق شوقى لشؤون المعلمين.. وقد بدأ د. رضا حياته العملية مدرسا للعلوم بالمرحلة الإعدادية بالدقهلية، ثم مدرسا للكيمياء بالمرحلة الثانوية، وحصل على شهادة الدكتوراة فى إدارة المناهج وطرق التدريس من جامعة المنصورة، كما رأس امتحانات الثانوية العامة عدة سنوات.. وللأسف الشديد فقد شعرت، مع الكثير من أولياء الأمور، أن هناك تراجعا كبيرا، بل ومخيفا، وتخبطا فى العملية التعليمية وتحسرت على الملايين التى أنفقت من قبل للنهوض بالتعليم مما يحتم ضرورة إنشاء مفوضية للتعليم، كما نادى بذلك أستاذنا الكبير د. محمد غنيم، تضم كل المتخصصين فى التعليم، ومعهم د. طارق شوقى الذى بدأ الطريق لإعادة الحياة لمشروع النهوض بالتعليم على أسس قوية وراسخة.
وسوف أسرد بعض مظاهر هذا التراجع مع احترامى لشخص د. رضا حجازى:
فوجئنا جميعا بدعوة د. رضا للاعتراف بأوكار الدروس الخصوصية ثم تراجع عن رأيه بعد أن شعر بأن هذا يعنى ببساطة إلغاء المدرسة ومن ثم إلغاء التعليم بعد أن تم إهمال التربية.. كما أنه فى حديثه الأخير مع الصحفيين قال إن جميع الامتحانات سيكون فيها وقت مخصص للمراجعة! فى حين أن الوقت المحدد للإجابة يجب أن يكون على قدر السؤال، وهو ما يميز تلميذا عن الآخر، وقد ذكرنى ذلك بالمناقشة التى تمت مع زملائى من وكلاء كليات جامعة القاهرة حين كنت وكيلا لشؤون الطلاب، وأصررت على رفض ما كان يسمى «درجة الرأفة» وقلت إن الرأفة تعنى أن المصحح كان غير عادل مع الطالب، وهو ما لا يجب أن يكون حين يقوم أكثر من مصحح بمراجعة الإجابة، كما أننى تعجبت من تكرار القول بأن الامتحانات سوف تكون فى مستوى الطالب المتوسط، وهذا أمر مرفوض فنحن فى أمس الحاجة إلى المتميزين وما أكثرهم.. كما تحدث السيد الوزير عن مسابقة تعيين 30 ألف معلم ولم يذكر شيئا عن مصير أولئك الذين خاضوا الامتحانات من قبل ولم يتم تعيينهم بغير تفسير.. ثم تحدث الوزير عن مجموعات التقوية- التى أسماها مجموعات الدعم!- وقال إنها متاحة لمعلمين من خارج التربية والتعليم بشرط الكفاءة!! ولم يذكر كيف؟، وعن أسعار الحصة الواحدة فقد حدد سعرها بين 20 و80 جنيها حسب المنطقة وظروفها الاقتصادية!. وعلى حد علمى فإن نسبة كبيرة من تلاميذنا وفى ظروفنا الراهنة سوف يكونون فى حاجة لأن تدفع الدولة هذا المبلغ وعلى ذكر هذه المجموعات فقد أنشأتها بطب القاهرة حين كنت مسؤولا عن الطلاب، واتفقت مع من يعطون دروسا خصوصية خارج الكلية على أن شرط الموافقة على الدروس الخصوصية هو أنهم يقومون بالمشاركة فى مجموعات التقوية داخل الكلية وبعد انتهاء اليوم الدراسى، بالإضافة إلى قيامهم بالتدريس للطلبة وفق الجدول المخصص لهم بالكلية ونجحت التجربة فى ذلك الوقت وتم نشرها فى بعض الجامعات الإقليمية.
من ناحية أخرى جاءتنى شكوى من بعض أولياء الأمور الذين يتعجبون من تغيير مواعيد امتحان الترم الثانى فى المرحلة الإعدادية والذى كان من المفترض أن تكون أول يونيو فإذا بالوزارة تعدلها إلى أول مايو!، وهو ما يعنى أن هذا الترم سوف سوف يتم تدريسه فى حوالى 50 يوما دراسيا، وهو ما لن يحدث إلا بأن يتم اختزال واختصار المنهج أو أن يفرض على التلاميذ بغير شرح واف.. وهى مهزلة فى كلتا الحالتين خاصة إذا علمنا أن هذه المدة القصيرة تأتى فى شهر رمضان!، ومعنى ذلك أن على هؤلاء التلاميذ أن يقضوا إجازة نهاية العام لمدة 4 أشهر!، فهل هذا هو التعليم الذى ننشده لأبنائنا؟.
باختصار.. نحن فى حاجة ماسة لمراجعة أنفسنا- اليوم وليس غدا- فبغير تعليم متميز يليق بنا لن تقوم لنا قائمة.. اللهم إنى بلغت اللهم فاشهد.
نقلا عن المصرى اليوم