اليوم تحتفل الكنيسة بتذكار نياحة قداسة البابا يوأنس الثالث عشر الـ ٩٤ (١١ أمشير) ١٨ فبراير ٢٠٢٣
في هذا اليوم تذكار نياحة قداسة البابا يؤنس الثالث عشر الـ ٩٤. في أيام حكم قايتباي الوالي المملوكي الذي اتسم عهده بالهدوء النسبي في الصراع بين المماليك، اتفقت آراء الأساقفة والأراخنة بعد خمسة شهور من نياحة البابا يوأنس الثاني عشر على اختيار الراهب المتوحد "يوحنا" الملقب بابن المصري المولود في صدفا بمديرية أسيوط، وتمت رسامته في 10 فبراير 1484 م. في كنيسة العذراء بحارة زويلة المقر البابوي آنذاك، وحمل اسم سلفه "يوأنس" بلقب الثالث عشر.
و لقد تشابهت أيّامه مع المتنيّح البابا متاؤس المشهور بحبه المتناهي للمعوزين والفقراء، فلم يطرق بابه إنسان إلا ووجد حاجته دون نظر إلى سنٍ أو مذهبٍ أو دينٍ. فكان عطاؤه للكل بلا حدود، ومع هذا ازدهر البناء في الكنيسة في عصره بدرجة كبيرة جدًا، وبلغت الكنيسة شأنا كبيرًا في الداخل والخارج، فكانت الخدمة الكنسية على أحسن أحوالها كمًّا وكيفًّا بمساندة الأنبا ميخائيل أحد أساقفته.
وقد قام البابا يوأنس بإحضار جسد القديس مرقوريوس أبي سيفين إلى الكنيسة المكرّسة باسمه في مصر القديمة بدرب البحر في سنة 1488 م.
وعاش البابا فقيرًا من الناحية المادية، لكنه كان غنيًا في كل مجال، ففي الناحية العلمية كان ضليعًا في العلوم الكنسية وله كثير من المؤلفات في طقوس الكنيسة وفي تعاليمها تزود بها أهل عصره.
ومن ناحية دور الكنيسة مسكونيًا، فقد وجه خطابًا بابويًا إلى أساقفة قبرص والخمس مدن الغربية وأثيوبيا. والجدير بالذكر أنه هو الذي رسم أسقفا قبرصيًا هو الأنبا ميخائيل القبرصي مطرانًا قبطيًا على قبرص ورودس، ولازال التأثير القبطي واضحًا في نقوش الكنائس والقصور فيهما حتى يومنا هذا، ولازالت إحدى كنائسنا هناك باسم القديس أنطونيوس ويوجد دير يحمل اسم أنبا مقاريوس وهو "سوري اجار" (دير أنبا مقار). وكان القبط آنذاك أحد فئات الشعب وضمن الإحصاء العام الذي اضطلع به التُرك بعد حكمهم الجزيرة لتحديد الضرائب.
أما من ناحية الخمس مدن الغربية فيذكر المؤرخون أن المسيحية انتهت تمامًا فيها في بابوية الأنبا يوأنس السادس زمن حكم صلاح الدين الأيوبي، بعد أن كانت من أهم المراكز المسيحية التابعة للكرسي السكندري وكانت إبروشياتها عامرة تشغلها الأساقفة. لكننا نجد للقبط أسقفًا في عهد البابا يوأنس الثالث عشر حتى دخول العثمانيين شمال أفريقيا في العقد الثاني من القرن السادس عشر الميلادي وكان اسمه "قرياقوص"، وقد ترك هذا الأسقف إيبارشيته وعاد إلى مصر بعد الحكم العثماني لها وذهب إلى دير السيدة العذراء الشهير بالسريان حيث قضى بقية حياته. ونعرف من إيبارشيات المدن الغربية ما يلي: أفريقية وبرقه وبرنيقه وطرابلس الغرب ومراقية في ليبيا وتونس ودرنة وقابس وقيروان في تونس
أما من جهة أثيوبيا، فقد تعذر على البابا السكندري إرسال مطران قبطي - كالعادة - لأولاده الأثيوبيبن بسبب الخصومات بين سلاطين مصر المماليك وملوك أثيوبيا، مما دفع داود الثاني ملك أثيوبيا إلى مخاطبة البرتغال لتعيين أسقف وفعلًا رسم الحبر الروماني أسقفا للأثيوبيين، والعجيب أنه سماه "بطريرك الإسكندرية" وكان برتغاليًا اسمه (بواز بارموداز) رغم ما في ذلك من تَحَدٍّ واضح وصريح للأصول الأخوية ولقوانين المجامع المسكونية خصوصًا مجمع نيقية.
ولكن أصلحت الأحوال وأرسل داود الملك الأثيوبي أميرين أثيوبيين أحسن قنصوة الغوري استقبالهما واستقبلهما البابا المصري بالترحيب ووعدهم بإرسال أسقف مصري.
والجدير بالذكر أن عصر المماليك اشتهر بالمتناقضات، ففي الوقت الذي عاش فيه الأقباط مع المسلمين في سلام إبان حكم قنصوه الغوري، وظهر ذلك في تعييدهم معًا بوفاء النيل وعيد النيروز، وازدهار هندسة البناء وزخرفة المباني والهندسة الزراعية وتقدم الطب خصوصًا طب العيون، إلا أن عدو الخير زرع شوكًا وسط الحنطة، فقد هجمت القبائل العربية المقيمة في الوجه القبلي على ديري الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس وحطموا كل ما فيها بعد أن قتلوا الرهبان، وكانوا كلما احتاجوا إلى وقود كانت الكتب المقدسة والمخطوطات والكتب الكنسية هي زاد هذا الوقود، ولازال أثر الحرائق واضحًا على رسوم وجدران الديرين، وإن كانت يد العمارة قد امتدت لتغسل عار همجية الغزاة الذين لم يراعوا حرمة عجوز أو ناسك أو كتاب يحث الناس على الفضيلة.
و من الأسماء الشهيرة لشهداء القبط في عصر هذا البابا الجليل القديس "صليب الجديد " الذي لازال جسده لم يرَ فسادًا حتى يومنا هذا، وقد نقلت بعض مخلفاته إلي دير مارمينا العجايبى بمريوط. وقد نال إكليل الشهادة بعد أن صلبوه على صليب من خشب داروا به شوارع القاهرة فوق جمل، كأمر قضاة المسلمين الأربعة، ورغم هذا كان صامتًا ونعمة الله حالة على وجهه الذي كان يشع نورًا وقطع السياف رأسه بعد أن قال: "إنني عشت نصرانيًا وأموت نصرانيًا".
و من متناقضات العصر المملوكي أيضًا أنه رغم امتداد حكمهم لفترة طويلة واتساع سلطانهم إلى سوريا وقبرص والحجاز، ورغم اندحار الصليبيين والمغول على أيديهم، إلا أن المصريين لاقوا صنوفًا من الجور والتعسف والافتقار والمذلّة والضرائب الباهظة من السادة المماليك بالإضافة إلى الفتن والاضطرابات الداخلية، وكان القبط أوفر حظًا في تلك الإساءات التي امتدت إلى الكنائس والأديرة بالتخريب والتدمير.
و من أشهر الأديرة التي دمرت في هذه الحقبة:
دير القصير - قلته - وكانت به أيقونات من أجمل الصور للقديسة العذراء مريم.
دير مار يوحنا ودير أبي مينا بمغارة شقلقيل على أعلى الجبل يطل على النيل ناحية منفلوط.
دير مار بقطر بمحاجر أبنوب، ودير أبو هرمينا الراهب الناسك، ودير السبعة جبال بأخميم، ودير أنبا بسادة أو بشادة من علماء النصارى.
و دير نهيا بالجيزة، وكان كما يقول المؤرخ أنه كان من أنزه وأطيب المواقع وأجمل الأديرة.
و دير إيسوس وله عيد في 15 بشنس وفيه بئر يعرف باسم إيسوس يفيض ماؤه في عيده، والعجيب أن هذا الدير كان أول من أعطى المصريين فكرة عمل مقياس لفيضان مياه النيل، إذ أن ارتفاع الماء في هذا البئر كان هو نفسه الارتفاع الطبيعي لفيضان نهر النيل.
و دير يحنس القصير على رأس الجبل غربي أسيوط:
لم يفلت من التخريب سوى الدير الذي آوى السيدة العذراء مريم مع رب المجد في طفولته ويوسف النجار - دير العذراء بجبل درنكة بأسيوط أو دير قرية النصارى الصعايدة، ودير موشة خارج أسيوط وقد أقيم على اسم "توما الرسول الهندي". وكانت القبطية الصعيدية لهجة تلك المنطقة كما أنهم كانوا متبحّرين في القبطيات واللغة الرومية.
من الكنائس التي أصابها التخريب كنيسة بومينا الحمراء، أما كنيسة الألزهري التي كان بها كثير من النصارى فقد حفر الرعاع حولها من جميع الجوانب حفر عميقة حتى تقع وحدها دون تخريب، ولكن الغوغاء انتهزوا فرصة صلاة الجمعة والشوارع شبه خاوية وتركوا الصلاة وتسلقوا الكنيسة وخربوها عن آخرها، وأخذوا ما بها من تراث وستور وصور وجرار خمر شربوها وباعوا ما فضل عنهم وهم مترنحين. وخرجوا منها إلى كنيسة دير للبنات فكسروا أبوابها وسبوا البنات وحرقوها. وكنيسة أخرى في أخميم كان اسمها "إيسوتير" (المخلص) وكان فيها بئر إذا وُضع ماؤه في القنديل صار أحمرا كالدم. وكانت جميع الكنائس التي خربت مائة وستين كنيسة، ولم يبقَ منها سوى أربع كنائس. وعندما كانت الكنائس تخرب كانت البيوت تفتح للصلاة ونسي الأشرار الوعد الإلهي: "ها أنذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا في السماء"
و رغم هذه الضيقات كانت الكنيسة في ازدهار منقطع النظير وكانت ممتلئة فرحًا وسلامًا بفضل راعيها السماوي وراعيها الأرضي الذي جاهد الجهاد الحسن مدة أربعين عامًا، وترك لنا رصيدًا كبيرًا وذخيرة روحية لا ينضب معينها في تعاليم الكنيسة وطقوسها.
ولما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته في 5 فبراير سنة 1524 م.، في أرض الأحياء وتمت مراسيم الصلوات الجنائزية في كنيسة العذراء بحارة زويلة حيث دفن أيضًا مع سابقيه. وقد شاهدت بابويته نهاية دولة المماليك الجراكسة، إذ انتصر عليهم سليم الأول السلطان التركي وتحوّلت مصر أثنائها إلى ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية
بركه صلاته تكون معنا آمين...
ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين...