سمير مرقص
حلم الدولة الحديثة، وإن انطلق وفق طموح فردى لمحمد على الذى جاء إلى سدة الحكم بإرادة وطنية شعبية، تجسد - سريعا - فى مجموعة من التحولات المادية فى بنى المجتمع المصرى: الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والعمرانية. لعل من أبرزها الحضور المصرى فى بنية الاقتصاد الزراعى - بالأساس - كملاك كبار للأراضى من جهة، والذى سرعان ما بلور نخبة سياسية فاعلة عبر مجلس شورى النواب الذى أسسه الخديو إسماعيل فى 1866 من جهة أخرى.
 
فرضت مجمل التحولات المادية علاقات مجتمعية جديدة، ومِن ثَم موازين قوة غير التى كانت سائدة فى زمن الظلام والظلم المملوكى - العثمانى. فما كان سائدا فى زمن المماليك (1250 - 1517) والعثمانيين (1517 حتى 1805 المحاولة الأساس للاستقلال عن الدولة العثمانيين) هو سلطة الغلبة التى تقوم على علاقة بين سلطة قاهرة (وافدة خلال هذه الفترة) وبين رعية مقهورة. وفى هكذا نمط من الحكم لا يكون للرعية حقوقٌ بل منحٌ وامتيازاتٌ ينفحها أفندينا - الحاكم- على رعاياه المحكومين.. ولكن مع التحولات المادية فى الجسم الطبقى والاجتماعى المصرى، والتى أنهت قرونا من: الاستعباد والاستبعاد؛ كان لابد من تأسيس فكرى جديد يتناسب مع مرحلة الحضور الفاعل الاقتصادى والسياسى للمصريين، وهو ما أنجزه فى كتاب: «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية»؛ تأسيس يربط بين التحولات المجتمعية النوعية الإيجابية أو «المنافع العمومية» للبلاد وربطها بتحقيق المساواة والإنصاف لجميع المصريين دون تمييز.
 
(2)
«المساواة والإنصاف»
 
يكتب «الطهطاوي» فى مقدمة «مناهج الألباب»: «.. المنافع العمومية التى تعود بالثروة والغنى وتحسين الحال وتنعيم البال على عموم الجمعية (مجموع المواطنين/ المجتمع)، وتبعدها عن الحالة الأولية الطبيعية (قبل الدولة الحديثة).. تذوق به العباد طعم السعادة، ويعد تمدنًا عموميً (للجميع دون استثناء)...».
 
إذن، لم تعد الدولة لدى «الطهطاوى» هى دولة الحكم القهرى المطلق: مولانا فى مواجهة الرعية، وإنما الدولة لديه هى دولة حديثة مؤسسية مقيدة دستوريا ويعمل الحاكم/ النخبة الحاكمة من أجل المواطنين. إنها دولة: «حفظ الحقوق.. والحرية، وصيانة النفس والمال والعرض.. على موجب القوانين». وعند الطهطاوى لابد للشعب أو المواطنين أن «يحرزوا كمال الحرية والتمتع بالمنافع العمومية فيما يحتاج إليه الإنسان فى معاشه ووجود كسبه وتحصيل سعادته..».
 
فى المقابل، على الدولة ممثلة فى «ملوكيتها» (سلطتها)، لابد أن يكون جُل هدفها فى إدارة شؤون البلاد هو خدمة العباد (المواطنين) بالدستور/ القوانين والقضاء وإعمال المساواة والإنصاف بين الجميع (أو «الأشعة الثلاثة القوية التى تسمى أركان الحكومة وقواها»).

(3)
«ميلاد المواطنة المصرية والعدالة الاجتماعية»
 
يقول «محمد عمارة» فى مقدمة الأعمال الكاملة لـ«الطهطاوى»: «كانت الروابط الوطنية والمشاعر القومية (زمن الظلم والظلام المملوكى - العثمانى) حبيسة نظام الالتزام فى الريف وتنظيمات طوائف الحرف فى المدينة».. وهو ما استثمره المماليك - العثمانيون إلى «أبعد الحدود.. لإحكام قبضتهم الاستعمارية الاستبدادية».. إلا أن «الطهطاوى» فى كتابه «مناهج الألباب» يؤسس لـ«حق المواطنة» فى الدولة الحديثة التى صحّت فيها الروابط والمشاعر الوطنية والقومية. فيكتب فى «المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين»: «.. والآن تغيرت الأفكار، وزالت عن أبناء الوطن هذه الأخطار، فالآن ساغ للوطنى الحقيقى أن يملأ قلبه بحب وطنه، لأنه صار عضوًا من أعضائه. فصفة الوطنية لا تستدعى فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضا أن يؤدى الحقوق التى للوطن عليه..». ويعلق «عمارة» بأن «هذا الفكر الذى قدمه الطهطاوى عن الوطنية والقومية والمواطنة لم يكن فكر باحث أو دارس يدرس.. بل كان ثمرة لتجربة وطنية عريضة وعميقة»، اختبرتها مصر بعد قرون من «الاستعباد والاستبعاد» للمصريين، وعاشها «الطهطاوى» يومًا بيوم، وكرّس لها كل ما خبره من تاريخ مصر وتراث دينى وثقافى ومعرفة معاصرة (آنذاك) وتجارب التقدم للآخرين.
 
وانطلاقًا من المواطنة، قارب «الطهطاوى» العدالة، ليس باعتبارها «إعطاء كل ذى حق حقه» - فقط - وإنما ربط العدل بضرورة «منع الظلم» من خلال تأسيس فكرى غير مسبوق باللغة العربية، وهو ما تناوله «عزت قرنى» فى دراسته المعنونة: «العدالة والحرية فى فجر النهضة العربية الحديثة - 1980»..
 
.. ونُفصّله فى مقالنا القادم.
نقلا عن المصرى اليوم