ياسر أيوب
ليست السجون كلها تلك المبانى بأسوارها العالية وزنازينها الضيقة وأبوابها الحديدية.. فمن الممكن أن يعيش الإنسان كثيرا داخل سجن ليست فيه أبواب أو له أسوار، ورغم ذلك لا يستطيع الخروج منه.. سجن لا يراه أو يشعر به إلا هذا الإنسان نفسه الذى أبدا لا يجد قاضيا يحكم ببراءته أو محاميا يظل يدافع عنه حتى يسترد حريته.

وكان حارس المرمى البرازيلى مواسير باربوزا هو أشهر سجين فى تاريخ كرة القدم، رغم أنه أبدا لم يذهب لأى محكمة ولم يقف حتى دقيقة واحدة خلف أى قضبان.. ففى 16 يوليو 1950، وفى استاد ماراكانا فى ريو دى جانيرو بحضور 173 ألف متفرج، كانت المباراة الأخيرة للمونديال بين البرازيل وأوروجواى.. البرازيل لم تكن تحتاج إلا للتعادل فقط لتفوز على أرضها بأول مونديال فى تاريخها.. وبعدما انتهى الشوط الأول بالتعادل، أحرزت البرازيل هدفا فى بداية الشوط الثانى لتقترب كثيرًا وجدًّا من كأس العالم.. وظل الحلم قائمًا وقريبًا حتى بعدما أحرزت أوروجواى هدف التعادل فى الدقيقة 66.. لكن فى الدقيقة 79 نجح لاعب أوروجواى ألسيدس جيجيا فى تسديد كرة دخلت مرمى باربوزا الذى لم يتمكن من التصدى لها.. وانتهت المباراة بفوز أوروجواى بالكأس وسط دموع البرازيل كلها وحزن أهلها حتى غير المهتمين بكرة القدم.

وبسرعة أصبح باربوزا متهمًا ومدانًا بأنه هو الذى سرق فرحة البرازيليين وأضاع حلمهم الجماعى بالمونديال.. ودخل باربوزا رغمًا عنه هذا السجن محاصرا باتهامات ولعنات وسخرية الجميع.. ورغم أنه بقى بعدها يحرس مرمى البرازيل واعتذر كثيرا وطويلا، إلا أن السخرية منه لم تتوقف.. وعاش باربوزا بقية حياته فى مرارة دون أن يتذكر أحد له أى نجاح سابق أو لاحق، ومباريات كثيرة أنقذ فيها مرمى البرازيل، وأنه كان على سبيل المثال أحد أسباب فوز البرازيل بكأس أمريكا اللاتينية فى 1949.. فقد كان من أفضل حراس المرمى فى العالم والذى اشتهر بأنه الحارس الذى لا يرتدى قفازات.. وظل باربوزا داخل هذا السجن حتى وفاته فى 7 أبريل 2000 عن عمر 79 عاما.. وقبل وفاته بأشهر قليلة، قال باربوزا فى حوار له إن أقصى عقوبة جنائية فى البرازيل هى السجن ثلاثين عاما.. لكنه بقى فى سجنه الخاص خمسين عاما رغم أنه لم يرتكب أى جريمة.. وأصبحت حكايته ملهمة لكثيرين صاغوها فى أفلام سينمائية، منها فيلم عن باربوزا الذى يحاول العودة بالزمن للوراء لينقذ مرمى البرازيل من تسديدة جيجيا.. وعنها أيضا كانت الكتب والكتابات الكثيرة.. ولم ينجح كل ذلك فى إصدار عفو عن باربوزا، لدرجة تدخل رئيس الاتحاد البرازيلى لكرة القدم فى التسعينيات لمنع باربوزا من التعليق التليفزيونى على مباريات المنتخب البرازيلى، لأن الناس لم تنس أنه سبب خسارة البرازيل لمونديال 1950.. وهكذا أصبح باربوزا أشهر ضحية كروية فى التاريخ، وتجسيدا حقيقيا وحزينا لمن عاشوا حياتهم داخل سجون لا يراها أحد.
نقلا عن المصرى اليوم