الحلقة الرابعة من :( رحلتي من السلفية الجهادية إلى العلمانية )
بقلم : أسامة عثمان 

الموتى السائرون
هذا عنوان مسلسل أمريكي من أفضل المسلسلات المشوقة التي رأيتها ، يعرض حاليا منه الموسم الثالث ، ويحكي قصة خيالية أن البشر أصيبوا بفيروس غريب يجعلهم بعدما يموتون بلحظات تنشط خلايا المخ لديهم جزئيا فيقومون من موتهم فاقدين لإنسانيتهم ، فيقتلون من يقابلونهم من البشر أو الحيوانات . ويأكلونهم أحياء ، ولا يفرقون في ذلك بين قريب وحبيب لهم ، وبين عدو ، حتى دمروا البشرية كلها ، ولم ينج من البشرية إلا القليل الذين يكافحون للبقاء أحياء في عالم سقطت فيه الدول ، وانهارت فيه الحضارات على أيدي هؤلاء الموتى السائرون الذين لا يبقون على أحد ، يعرض المسلسل الصراع النفسي لدى القلة القليلة التي تكافح للبقاء عندما يجدون الذين كانوا أحبائهم بالأمس القريب أصبحوا يهاجمونهم كي يفتكوا بهم ، فلا يجدون بد من تهشيم أدمغة أحباءهم ، وهي الطريقة الوحيدة التي تقتل بها هذه الكائنات المتحولة ، وكذلك يعرض المسلسل الصراع الفكري بين القلة القليلة التي تكافح للبقاء وبعضها البعض ، فبعضهم كان يعز عليه التخلص من أحباءهم وعائلتهم الذين تحولوا إلى موتى سائرون ، وقام بحبسهم لعل يأتي اليوم الذي يجدون فيه دواء يساعدهم على العودة إلى طبيعتهم الإنسانية ، ولكن الجزء الآخر من القلة القليلة التي تكافح للبقاء أحياء رفض هذه المخاطرة ، وقام بتهشيم أدمغتهم ، المسلسل يعرض على المواقع ( MYEGY _ TVEGY _ MAZIKA2DAY ) ولا يزال الصراع مستمرا ... .
 
في مصر عندما يريد صاحب عقار أن يعفى من الالتزامات المادية تجاه الدولة يبني تحت بيته مسجدا .. طبعا تقربا لله !! ، ثم يسعى صاحب العقار أن يشجع الزبائن قصدي المصلين أن يعمروا مسجده ، في أحد هذه المساجد كنت اجتمع مع مجموعتي الملحقة ، وكنا نجد ترحيبا من صاحب المسجد لأننا نعمل له نشاطات داخل مسجده ، ورواده يزدادون ، ففكرة السيطرة على المساجد بالقوة كانت قليلة الحدوث ، أما الغالبية من أصحاب المساجد فكانوا يرحبون بنا ، خاصة أننا لم نكن نفصح لهم عن توجهاتنا الفكرية ، فنحن في نظرهم مجرد شباب متدين ، أخلاقنا عالية في التعامل معهم ومع الناس ، وأننا أفضل من الشباب الضائع في المخدرات ، والانحرافات المختلفة ، لذلك كانوا يتعاطفون معنا .
 
كان من ضمن الرواد الجدد للمسجد طفل صغير في الصف الثاني الإعدادي ، اقتربت منه وتعرفت عليه ، وعرفته على المجموعة ، فهم يكبروه بعامين ، وأنا أكبرهم بعامين .
 
أحبني هذا الطفل كثيرا لما كنت أشمله به من حسن المعاملة ، والاستماع إلى شكواه من أسرته المفككة ، وإهماله داخل الأسرة ، فاتخذني أخا أكبر له ، وأصبح ملازما لي أينما وجدت ، وكان يشارك في كل النشاطات التي نقيمها من أجل أن يكون بجواري ، فقد أصبحت له عوضا عن أسرته .
كانت صدمة لي عندما وجدتني أكن له مشاعرا غير التي أكنها لباقي المجموعة ، فقد وجدتني أحب تواجده معي ، وأنشغل به إذا غاب عنا ، وأذهب للسؤال عنه للاطمئنان عليه ، فقد كانت مشاعر جديدة لم أشعر بها من قبل .
 
شكوت إلى أحد أصدقائي في الجماعة ، والذي يكبرني سنا ، ويسبقني في الانتماء إلى الجماعة ، شكوت له عن هذه المشاعر ، وعن حقيقة ما يحدث بداخلي تجاهه ، فعرفني أن العشق أحد أمراض القلوب مثله مثل الكبر ، والحسد ، والحقد ، وأنه قد يحدث مع النساء ، أو مع الرجال ، ودلني على كتاب للإمام ( ابن قيم الجوزية ) أحد علماء السلف وتلميذ الإمام ( ابن تيمية ) العالم السلفي المشهور اسم الكتاب ( الداء والدواء ) ، قرأت الكتاب ، ووجدته كله عبارة عن إجابة لسؤال عن رجل ابتلى بعشق أحد الرجال ، وكيف يتخلص من هذا الداء . 
عرفت حجم القضية من الكتاب فأحسست بخطورة هذا الأمر فابتعدت عن هذا الطفل ، وأبعدته عني ، والحمد لله كان الأمر سهلا ، فقد كان في بدايته ولم يتمكن الانشغال به من قلبي .
 
وجدت في هذا الكتاب عالما غريبا عن المتدينين السابقين ، وعن قصص ابتلاءهم بهذا المرض القلبي ، وتعجبت لذلك ، وعرفت أن هذا المرض فتنة من الشيطان يضل بها عباد الله ليبعدهم عن طريقه .
هذا كان التفسير الذي قدم لي وقتها سواء من صديقي ، أو من خلال الكتاب الذي قرأته ، وهذا ما اقتنعت به ، ولكن أظن أن هذا التفسير لم يكن صحيحا أو دقيقا ، ففي خلال مراجعاتي الفكرية ، والنفسية التي قمت بها لتقييم تجربتي عندما كنت في السعودية ما بين عامي 2004 _ 2009 اكتشفت أمرا آخر !! 
الحب طاقة .. إن لم نصرفها في طريقها السليم مع المرأة سوف تنصرف هذه الطاقة في طريق آخر شاذ ، فمثل الحب مثل بخار الماء المتصاعد من تحت غطاء الحلة على النار ، إن لم نقم نحن بكشف الغطاء بأيدينا ونصرف هذا البخار ، فسوف يقوم البخار بدفع الغطاء في وجوهنا كي يصرف نفسه بنفسه ، وساعتها تكون الإصابة .
 
هذا هو ما فعلناه بأنفسنا ، وهذا هو ما فعله التيار الديني بنفسه على مدار التاريخ ، حرم كل أشكال التواصل مع المرأة ، واعتبرها عورة ، وسبب الشرور ، وسبب الفتن ، وأضر فتنة على الرجال ، وتقبل في صور شيطان ، وتدبر في صورة شيطان ، والجلوس في نفس مكانها بعدها مباشرة حرام لأنه يثير الفتنة بدفئه ، ولا تخرج من بيتها إلا مرتين في العمر : مرة إلا بيت زوجها ، ومرة إلى قبرها !! كل ذلك استنادا إلى أحاديث صححوها بفكرهم الضال ، والإسلام منها برئ ، أو استنادا إلى أقوال علماء ، وما هم بعلماء بل مرضى نفسيين مصابين بمرض الهوس الديني .. أمرضوا أنفسهم وأمرضونا معهم .
هذا ما حدث للتيار الديني قديما ، وما حدث للتيار الديني حديثا بسبب غبائهم ومخالفتهم للفطرة ، وهذا ما حدث داخل المعتقل بصورة أشد ، من انحرافات عاطفية ، وجنسية أصابت الكثيرين ، حتى أنها أصابت بعض قيادات الجماعة كما عرفت عن بعضهم ، وكما كان يشاع عن البعض الآخر ، وهذا ما سأتكلم عنه بالتفصيل في وقته .
 
وهذا ما وجدته أيضا في المجتمع السعودي أثناء إقامتي هناك ، ففي أثناء حوار لي مع أصدقائي من المدرسين السعوديين حول انتشار ظاهرة الشذوذ الجنسي عندهم ، فقالوا لي أن هذه الظاهرة كانت منتشرة عندهم جدا في الماضي ، وأنها انخفضت بصورة ملحوظة بعد خروج المرأة للدراسة ، ومن بعد ذلك للعمل ، وأصبح هناك تواصل معها بسهولة بعد أن كانت محبوسة في بيتها ، وقلت الظاهرة أكثر بعد وسائل التواصل الحديثة من موبايل ، وانترنت ، فوجد الحب مصرفا شرعيا مع المرأة .. ( تحية إلى كل العشاق على الكورنيش أو على كل وسائل الاتصال الحديثة ) ، فأنتم أكثر سواء نفسي ممن ينتمون للتيارات المتأسلمة .
 
تحت تأثير تلك الأفكار التي تم غسل أدمغتنا بها ، والتي وضحتها في ( التكوين الفكري ) ، وتحت الضغط النفسي الذي وقعنا تحته بسبب الخوف من عذاب القبر ، وتحت الضغط النفسي الذي تعرضنا له من جراء كبت مشاعرنا تجاه المرأة ، تحت كل هذه الضغوط أصبحنا نبحث عن حل للتخلص من هذه الضغوط التي ترهق أعصابنا ، وتدمر نفسياتنا ، كان الحل الجاهز هو الجهاد في سبيل الله ، أو بمعنى أصدق كان الحل هو ( الانتحار ) ، ولكن ( بصورة شرعية ) هي الجهاد في سبيل الله .
لم يبخل علينا شيوخنا وقياداتنا بتوفير الحل لنا ، فقد كان عام 1993 هو عام الجهاد في سبيل الله !! ، فقد صنعوا المشكلة بأيديهم ، ومن كرمهم قدموا لنا الحل !! .
 
كانت الكتب الفكرية تخرج لنا من سجن ( ليمان طرة ) حيث يقبع القادة المؤسسون للجماعة ، والتي تحضنا على الجهاد ، ومواجهة النظام ، وكان أخطرها علينا تلك القصص القصيرة التي كان يرسلها لنا ( عاصم عبد الماجد ) أحد القادة المؤسسين للجماعة والذي يقضي عقوبة المؤبد في قتل المرحوم السادات ( والذي قال عن اعتصام يوليو 2011 سوف نطهر الميدان ممن فيه من البلطجية ) ، فقد كانت قصص أدبية ذات أسلوب رائع كانت تجيش مشاعرنا نحو الاستشهاد ومواجهة النظام ، وتصغر في أعيننا حب الدنيا ، والسعي المحموم إلى الآخرة عن طريق قتل أنفسنا في هذه المواجهات التي اشتعلت بين الجماعة والنظام الحاكم في مصر . 
 
أصبحنا بعد فترة غسيل المخ ، وبعد إرهاق أعصابنا ، وتدمير نفسياتنا بكبت مشاعرنا تجاه المرأة ، وبفضل شحن قادتنا لنا من وراء الأسوار بمؤلفاتهم الملعونة ، أصبحنا كالموتى السائرون فقدنا عقولنا التي رزقنا الله إياها ، وفقدنا شخصياتنا تماما ، فأصبحنا كعرائس الماريونت في أيدي قادة الجماعة يحركوننا كيفما يشاءون ، نسالم من يسالمون ، ونحارب من يحاربون .
 
نعم أصبحنا كالموتى السائرون على استعداد أن ننهش لحوم كل من يختلفون معنا بقتلهم ، وأن ننهش أعراضهم بتشويههم ، وتكفيرهم .
لم نكتف بقتل من في الحاضر ممن يختلفون معنا ، بل ذهبنا إلى الماضي ننهش في أعراض مفكرينا ، ورموزنا الوطنية ، والفكرية ، نهشنا في عرض ( قاسم أمين ) ، وقتلناه مرات ومرات معنويا ، ونهشنا في عرض الدكتور ( طه حسين ) وقتلناه في نفوس من حولنا بتكفيره ، ونهشنا في عرض الأستاذ سلامة موسى بتخوينه ، ونهشنا في عرض روائيينا العظام ( نجيب محفوظ _ إحسان عبد القدوس _ يوسف إدريس _ خيري شلبي وغيرهم ) تارة بتكفيرهم ، وتارة بوصمهم بالإباحية ، والإفساد في المجتمع .
 
بل ذهبنا إلى أبعد من ذلك زمنيا ، ونهشنا في أعراض ( رفاعة الطهطاوي ) ووصفناه بأنه إنسان مفتون بالغرب ، وأصبح ذيلا لهم في إفساد مجتمعاتنا ، ونهشنا في عرض ( محمد علي ) باني مصر الحديثة ، ووصمناه بالكفر لأنه أول من بدل الشرائع ، وعمل على التمهيد لعلمنة مصر .
وذهبنا إلى أبعد من ذلك ، فكفرنا ، وشوهنا كل من اختلف مع الحكام الظلمة الفاسدين بحجة أنهم اختلفوا مع ما يسمى ( الخلافة الإسلامية ) ، أو اختلفوا مع ما يسمى ( فكر السلف الصالح) ، ذلك المنبع الآسن الذي تستقي منه الجماعات المتأسلمة بكل تنويعاتها أفكارها الإجرامية العفنة ، وبعد أن قتلنا ، وشوهنا ، ما هو جميل في ماضينا على قلته ، تحولنا إلى الحاضر ، والمستقبل كي نقضي عليه !!
 
بداية الجرائم السياسية
( الجهاد في سبيل الله )
تعتبر أحداث العنف في التسعينيات هي الموجة الثانية لأحداث العنف التي ارتكبتها الجماعة في تاريخها ، الموجة الأولى كانت أحداث اغتيال السادات ، وما صاحبها من جرائم ارتكبت في أسيوط من مقتل العشرات من الجنود ، وسيطرة الجماعة على مديرية الأمن لعدة أيام إلى أن سيطرت قوات الجيش على الوضع ، وقد كانت هذه الأحداث انقلابا على نظام الحكم بواسطة ثلاث مجموعات : واحدة لاغتيال السادات ، ونفذت المهمة ، وأخرى للسيطرة على مبنى الإذاعة والتليفزيون ، وقد قبض عليها ، والأخرى مجموعة الصعيد ، والتي قتلت العشرات . 
 
بدأت أحداث العنف في موجتها الثانية في مصرنا الحبيبة في بداية التسعينيات بمقتل الدكتور رفعت المحجوب في أكتوبر من عام 1990 قبل انضمامي إلى الجماعة بثلاثة أشهر تقريبا ، وهنا وقفة لا بد منها عن الجدل الذي أثير فيما بعد ما بين النظام ، وما بين الجماعة عن المتسبب في بداية الأحداث ، فالجماعة تدعي أن النظام هو الذي دفعها ، واضطرها إلى المواجهة العسكرية بعدما قام بقتل أحد قياداتها ، وهو الدكتور ( علاء محيي الدين ) المتحدث الرسمي باسم الجماعة ، مما اضطر الجماعة للثأر بمقتل الدكتور ( رفعت المحجوب ) ، ثم بعد ذلك توالت الأحداث ما بين فعل ، ورد فعل !!
 
كان هذا هو تبرير الجماعة لانخراطها في أحداث العنف السياسي ، ولكنها كاذبة كعادتها ، وكعادة تيار الإسلام السياسي عامة ، فهم يعتبرون أنفسهم في حالة حرب مع المجتمع الجاهلي لذلك يستحلون الكذب على المجتمع لأن الكذب يجوز في حالة الحرب كما ورد في الحديث النبوي .
 
فهل كان النظام هو الذي بدأ عندما قام شباب الجماعة في جامعة أسيوط ، وغيرها من جامعات مصر ، وفي محافظاتها المختلفة في السبعينيات ، والثمانينيات من القرن الماضي ، بالاعتداء على الناس بحجة تغيير المنكرات ، وهل كان النظام هو الذي بدأ عندما شاركت الجماعة في أعمال العنف المصاحبة لاغتيال المرحوم السادات ، واستحلت دماء الجنود الأبرياء ، وهل النظام هو الذي بدأ عندما وجدوا شقة في الهرم أو الطالبية على ما أذكر بها أسلحة وذخيرة ، وقد كان ذلك قبل مقتل المتحدث الرسمي باسم الجماعة ، ألا يعتبر ذلك دليلا على أن النية كانت مبيتة على مواجهة النظام سواء بدأ بالعنف أم لم يبدأ ، وأن مقتل المتحدث الرسمي ما هو إلا ذريعة لبدأ المواجهة المسلحة مع النظام .
 
ألا يعتبر كتاب ( حتمية المواجهة ) والتي أصدرته الجماعة في عام 1988 أو عام 1989 ، والذي يعتبر مثل كتاب ( معالم في الطريق ) لسيد قطب في وجوب مواجهة هذا النظام لأنه نظام كافر ، والذي عدد أسباب أربعة تحتم علينا مواجهة هذا النظام أذكر منها : ( وجوب إقامة الخلافة الإسلامية – وجوب خلع الحاكم الكافر – وجوب استنقاذ الأسرى - ... ) ، ألا يعتبر هذا الكتاب دليلا على أن النية كانت مبيتة للمواجهة سواء قتل هذا الشخص أم لم يقتل .
ألا يعتبر كتاب ( الإرهاب فرض والاغتيال سنة ) دليلا آخر على أن النية كانت مبيتة لارتكاب الجرائم باسم الدين .
 
بعد مقتل الدكتور المحجوب هدأت الضغوط من النظام على الجماعة ، وأطلق لها العنان ترتع في ربوع مصر ناشرة سمومها بين الشباب ، مستغلة بطولاتها في تصديها للنظام الظالم الفاسد لجذب مزيد من الشباب سواء من الشباب العادي ، أو من شباب الجماعات الإسلامية الأخرى والذين ، وجدوا ضالتهم في الجماعة ، وأنها هي التي ستقيم الإسلام في مصر .
 
كان هذا أمرا عاديا أن ينجذب شباب الجماعات الأخرى إلى الجماعة الإسلامية ، فلا يوجد فروق فكرية حقيقية بين تلك الجماعات ، فكلها تتبنى الفكر السلفي المتخلف ، والاختلافات بينها في الدرجة ، وليست في النوع ، فهم كانوا يوافقوننا على وجوب ، مواجهة هذا النظام ، ووجوب خلع الحاكم المستبدل لشرع الله ، وإقامة دولة الإسلام بتطبيق الشريعة ، ولكنهم يختلفون معنا في التوقيت فقط .
انطلقت الجماعة في صعيد مصر ، وفي أحياء مدنها الفقيرة تجتذب الشباب ، وتوقعه في حبالها ، مصابة بالغرور بما وجهته للنظام من ضربة موجعة بمقتل الدكتور المحجوب .
 
كانت الجماعة تعلم أن النظام يحضر لتوجيه ضربة قوية لها تنهي وجودها ، وأنها بدأت طريق اللاعودة ، فقامت بإرسال مجموعات من شبابها للتدريب في أفغانستان في عام 1991 ، ورجعوا في عام 1992 بأوامر باغتيال بعض الشخصيات في الدول ، وبعض رموز الفكر ، ولكنهم قبض عليهم قبل أن ينفذوا أي شيء ، وعندما دخلت المعتقل في عام 1994 علمت أن سبب القبض عليهم هو أخو ( ناجح إبراهيم ) القيادي المؤسس للجماعة ، والمحكوم عليه بالمؤبد في قضية اغتيال السادات ، وكاتب المقالات في جريدة اليوم السابع حاليا ، علمت أن أخوه أرشد عن المجموعة ،فتم القبض عليها ، علمت هذا الأمر من أحد رفاق المعتقل ، على أنه سر ، لا يجوز تداوله حفاظا على مشاعر الشيخ أن ينشر بين أفراد الجماعة أن أخوه عميل أمن دولة ، في حين أننا نتكلم عن الآخرين عادي ممن تعاملوا مع الأمن .. أخو الشيخ !!
 
قبض على هذه المجموعة وقدموا إلى المحاكمة العسكرية ، وكان ممن قبض عليهم صديق لي من المطرية يكبرني بعامين ، ظل في المعتقل من 1992 – 2007 ، ولم أقابله إلا في ميدان التحرير بعد الثورة ، فقد كان مشاركا فيها من أولها ، وهو الآن من أنصار حازم أبو إسماعيل المرشح السابق للرئاسة ( رحم الله والدته فقد أنقذت مصر ) .
في منتصف عام 1992 وبالتحديد في 8/6 /1992 تم اغتيال المفكر الشهيد الدكتور ( فرج فودة ) ، تلقيت الخبر وقتها بسعادة بالغة ، وظللت أتابع أخباره بشغف عبر الراديو لأنه لم يمت مباشرة - نقل إلى المستشفى مصابا في محاولة لإنقاذه – تابعت أخباره بشغف متمنيا موته ، والخلاص منه لأنه أحد أعداء الإسلام فقد كنا نكرهه جدا في جماعات الإسلام السياسي عامة!! لم أكن أدري وقتها أن هذا الرجل كان يدافع عن مصر الوطن الذي يراد تخريبه من الموتى السائرون ( (THE WALKING DEAD ، ولم أكن أدري وقتها أنني سأكون في يوم من الأيام أحد عشاق كتاباته ، ولم أكن أعلم أن كتابه ( الحقيقة الغائبة ) والذي قرأته في عام 1998 في أوج انتمائي للفكر السلفي سوف يبهرني بأسلوبه ، وجرأة أفكاره ، وكيف أنه وضع البذرة الأولى في تحولي من الفكر السلفي المتخلف إلى العلمانية ، والتي لم تؤتي أكلها كاملة إلا بعد 10 سنوات كاملة ، ولم أكن أعلم في يوم من الأيام أنني سوف أحضر حفل تأبينه ال 20 في الجمعية المصرية للتنوير ، ولم أكن أتوقع أن الأيام ستدور ، وسأصبح أنا وابنته أصدقاء على الفيسبوك ، تلك الفتاة طيبة القلب التي تقبلت مني اعتذاري بطيب نفس عن مشاعري السلبية تجاه والدها ، أشكرك سيدتي فقد أزحتي عن كاهلي حملا ثقيلا ، وأسأل الله لكي ولأسرتك لقاء الوالد في جنة الخلد بإذن الله .
 
في نهاية عام 1992 ، وبداية عام 1993 بدأت الجماعة ضرب السياحة في صعيد مصر ، وتوالت الأحداث في ذلك بكثرة ، ما بين الصعيد ، والقاهرة .
أصيب النظام بجرح غائر جراء عمليات ضرب السياحة أصبح بسببها كالأسد الجريح ، فشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف الجماعة ، وفي صفوف المتعاطفين معهم خوفا ألا يتحولوا من أفراد منتمين ، إلى العمل المسلح .
 
قام أمن الدولة في هذه الفترة بحملة قبض عشوائي على أوسع نطاق في صفوف التيار الديني بأكمله ، كان هدفه هو جعل ظاهرة الإسلام السياسي كلها مسجلة تحت يديه ، فكانوا يقومون بالقبض على كل من تطوله أيديهم من المنتمين للتيار الديني عامة ، والتحقيق معهم ، وتسجيلهم ، والإفراج عنهم ، ولا يبقون إلا على من ينتمون للجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد أو المتعاطفين معهم كإجراء احترازي .
 
في هذه الفترة من عام 1993 اتخذت جماعة ( الجهاد الإسلامي ) قرار النزول إلى ساحة الجهاد الإسلامي !! ، خوفا من أن تسيطر الجماعة الإسلامية على الساحة ، وتأخذ منها الأضواء ، فقامت بمحاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء ( حسن الألفي ) ، و محاولة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق الدكتور ( عاطف صدقي ) ، والتي قتلت فيها الطفلة شيماء أمام مدرستها ، والتي استغربنا وقتها من الضجة التي أثيرت في الإعلام عليها ، ألا يعلمون أن أي دماء تسيل خلال معركتنا مع النظام الكافر هي شيء تافه بالمقارنة بالهدف الأسمى الذي نسعى إليه وهو إقامة الدولة الإسلامية ؟ !! .
 
كان يحكم تفكيرنا في هذا الأمر فتوى للإمام ( ابن تيمية ) – نفسي أعرف مين خلاه إمام ؟ – أن من يقتل أثناء الحروب الإسلامية ، وليس له علاقة بالحرب ، فيبعث على نيته ، إن كان متعاطفا معنا فهو في الجنة ، وإن كان من أنصار النظام العلماني الكافر ، فسيحشر معهم .
 
لم يكن هذا تفكير الجماعة الإسلامية ، وجماعة الجهاد الإسلامي فقط ، فهناك كثير من السلفيين يؤمنون بهذا الفكر الدموي ، ألم نسمع كلام الشيخ السلفي ( محمد عبد المقصود ) ، وهو يقول أن المرشح الرئاسي السابق ( حازم أبو إسماعيل ) قال له قولته الشهيرة ( منذ متى ونحن نعبأ بالدماء ؟ ) !!
في هذه الفترة قامت الجماعة أيضا بمحاولة فاشلة لاغتيال وزير الإعلام الأسبق ( صفوت الشريف ) ، وحزنا كثيرا لنجاته ، ومحاولات ناجحة كثيرة لقتل ضباط ، وعساكر ، ومخبري الشرطة .
 
كانت نظرية الجماعة في مواجهتها للنظام أنها تقوم بتقطيع أوصاله جزءا جزءا ، فالنظام له ذراع اقتصادي ، فكانت عمليات ضرب السياحة لضرب اقتصاد النظام ، وعمليات تفجير البنوك ، والنظام له ذراع عسكري ، فكانت عمليات قتل الضباط ، والعساكر ، والمخبرين ، والنظام له ذراع سياسي ، فكانت محاولة قتل وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف ، وكان المستشار السياسي لمبارك الدكتور ( أسامة الباز ) مستهدفا ، والنظام له ذراع فكري ، فكان اغتيال المرحوم فرج فودة ، ومن بعده المحاولة الفاشلة للروائي العالمي ( نجيب محفوظ ) في أكتوبر 1994 ، والتي كنت سأشارك فيها ، ولكن الاعتقال نجاني منها ، وسوف أحكي تفاصيلها في حينها .
 
كانت هذه هي نظرية الجماعة الإسلامية في مواجهتها للنظام ( سياسة تقطيع الأوصال ) حتى إذا ما أصبح مثخنا بالجراح سهل ضرب الرأس ، والقضاء التام على النظام ، واستبداله بآخر إسلامي ، هذه النظرية لم تمنع مع ذلك من محاولة اغتيال مبارك عدة مرات ، وكانت تعتبر كضربة موجعة للنظام بقتل رئيسة ، فإن لم تؤد إلى إزالة النظام ، فحتما ستضعفه ، وستكون خطوة على طريق إسقاط النظام العلماني الكافر .
 
في هذا الإطار كان هناك محاولة في عام 1993 عن طريق الدخول إلى داخل القصر الجمهوري عبر شبكة أنفاق الصرف من خارج القصر ، ثم الخروج داخل حيز القصر الرئاسي ، وضربه بآر بي جيه ، ولكن المجموعة كشفت ، وتم القبض على أفرادها ، وحوكمت في قضية سميت ( تنظيم ال 19 ) لأنهم كانوا 19 فردا ، وحكم على زعيم المجموعة بالإعدام ، وصاح في قاعة المحاكمة ( فزت ورب الكعبة ) .
 
كان هناك محاولة أخرى لاغتيال مبارك في عام 1994 في ( سيدي براني ) ، وكان بها أحد الضباط العسكريين ، والمنتمي للجماعة ، وكانت فكرتها زرع ألغام في مدرج هبوط الطائرة الرئاسية في مطار سيدي براني ، ولكنها اكتشفت في آخر لحظة .
 
كانت هناك محاولة أخرى لجماعة الجهاد الإسلامي في طريق النصر بزرع عبوات ناسفة ، وتفجيرها عند مرور الموكب الرئاسي ، والعجيب أن المجموعة كانت تزرع المتفجرات عيني عينك حيث كانوا متخفيين في زي عمال إصلاحات وقاموا بالحفر ، وزرع المتفجرات جهارا نهارا . 
والمحاولة الأخيرة كانت في أديس أبابا عام 1995 ، والتي فشلت بسبب تغيير عربات الموكب الرئاسي الأثيوبية بأخرى مصرية مصفحة ضد الرصاص .
في أثناء اشتداد العمليات العسكرية في عام 1993 قامت جماعة الإخوان المسلمين بانتهازيتها المعهودة ، وأصدرت بيانا تدين فيه أعمال العنف والإرهاب ، ووجهت رسالة إلى النظام ( أعطونا حزبا شرعيا نحارب معكم الإرهاب ) ، لم يكن ذلك منهم رفضا حقيقيا للعنف ، لأنهم مارسوه بالفعل من قبل ، ولم يتبرأوا من جرائمهم السابقة ، ولم يقدموا للشعب اعتذارا عن تلك الجرائم ، ولعلنا شاهدنا مصداق ذلك في التهديد باللجوء للعنف أثناء الانتخابات الرئاسية إذا ما أعلن فائزا غير مرشحهم .
 
كانت جماعة الإخوان المسلمين تحشد أفرادها من بداية التسعينيات على قصة ( اتضح فيما بعد زيفها ) وهي أن اليهود سوف يهاجموننا بحلول عام 1997 لإقامة ( دولة إسرائيل الكبرى ) من النيل للفرات ، وملئوا الدنيا ضجيجا بهذه الأكذوبة حتى أننا في جماعة أخرى تأثرنا بها ، وصدقناها ، وكانا نسمع أنهم يدربون أفرادهم على الألعاب القتالية مثل الكاراتيه ، والكونغفو استعدادا لهذا اليوم ، والغريب أنني في أواخر عام 1997 قابلت مسئول جماعة الإخوان المسلمين في المطرية ، قابلته في مبنى مباحث أمن الدولة ( لاظوغلي ) ، وقلت له كيف كنتم تحشدون الشباب على قصة دخول اليهود مصر في عام 1997 ، وها هو العام قد أتى ولم يحدث شيء ، فقال لي لا يوجد مانع من استغلال هذه القصة حتى وإن لم تكن حقيقية من باب نشر الدعوة ( النصب الشرعي ) .
لم أدرك وقتها سبب التدريبات البدنية لشباب الإخوان المسلمين طالما أن قصة دخول اليهود مصر لم تكن حقيقية ، ولكني أدركت السبب في عام 2011 ، 2012 ، أنه لم يكن ضد اليهود ، بل كان ضد الوطن .
 
كنت أتابع العمليات الجهادية في مصر ، وأنا أتحرق شوقا إلى المشاركة فيها ، فقد كان نصب عيني الحديث النبوي ( من لم يغز ، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) .
 
في النصف الثاني من عام 1993 زادت حدة المطاردات لأفراد الجماعة ، وأصبحت أبيت خارج بيتي خوفا من القبض علي ، كنت أسير هائما بالبطانية المعدة للهروب ، والتي أستخدمها كغطاء ، فأحيانا أبيت في مسجد ، وأحيانا عند أحد الأصدقاء ، وأحيانا أبيت في أحد البيوت تحت الإنشاء والغير مسكونة ألف نفسي بالبطانية ، وأنام على الأرض فتكون لي فرشا ، وغطاءا ، وأحيانا لا أجد مكانا فأهيم على وجهي طول الليل حتى يطلع الصباح ، فأرجع إلى بيتي ، وأنام فيه .
 
وفي أحد الأيام قابلت صديق لي في نفس الحي ، وحكيت له ظروفي ، ودعاني للمبيت عنده إلى أن تتحسن ظروفي ، وفعلا ذهبت إلى البيت لإحضار البطانية ( صديقتي الوفية في أيام هروبي ) ، قلت لأمي أحضري لي بطانية ، وجلست أقرأ الورد اليومي من القرآن وقد كنت أقرأ جزءا يوميا ، بدأت القراءة من سورة ( هود ) ، ونويت أن أقرأ حزبا في بيتي ، ثم أكمل الحزب الآخر في مبيتي الجديد ، أنهيت الحزب ، فعجبتني القراءة ، فقلت أكمل السورة ، فلم يتبقى غير ربعين ، أكملت السورة ، ودخلت على سورة ( يوسف ) ، قلت أقرأ ربعا ، ثم أقوم ، أكملت الربع ، فقلت لم يتبقى غير ربع واحد ، وأكمل وردي ، فلأكمله ، وأذهب إلى مبيتي حتى لا يكون علي شيء ، وأكن متفرغا للحديث مع صديقي ، وقبل أن أكمل وردي بآية واحدة ، وعند الآية ( إن كيدكن عظيم ) ، سمعت صوت خبطة شديدة ، كسر باب الشقة ، ووجدت ضباط أمن الدولة ، وضباط القوات الخاصة فوق رأسي .