بعض أمثال الملكوت
القمص يوحنا نصيف
 
يُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على كلام السيّد المسيح، وهو يُشَبِّه ملكوت الله بحبّة الخردل التي تنمو، وبالخميرة التي تعمل في العجين (لو13: 18-21)، فيقول:
 
 الكرازة بالإنجيل يعطيها (الربّ) هنا اسم ملكوت السموات، لأنّه عن طريق الإنجيل نقتني نحن حقّ الاشتراك في ملكوت المسيح. ففي البداية كُرِزَ بالإنجيل لأشخاصٍ قليلين، وعلى نطاق ضيِّق، لكن فيما بعد اتّسعَت دائرة تأثير الإنجيل، وانتشر ووصل إلى كلّ الأمم. لأنّه في البداية كَرَزَ به الربّ في اليهوديّة فقط، حيث كان التلاميذ المباركون قليلين جدًّا في العدد.
 
 كما أنّ حبّة الخردل هي أصغر في الحجم من جميع البذور، لكنّها تنمو وترتفع إلى علوّ عظيم، أكبر جدًّا عمّا هو معتاد بين الأشجار، حتّى أنّها تصير مأوى لطيور السماء. كذلك أيضًا ملكوت السموات، الذي هو الكرازة الجديدة والمقدّسة بالخلاص، والتي بها ننقاد إلى كلّ عمل صالح، ونعرف ذلك الذي هو الله بالطبيعة والحقّ، تلك الكرازة قد تمّ توجيهها في البداية إلى أشخاص قلائل، وبينما كانت تلك الكرازة صغيرة ومحدودة أوّلاً، فإنّها نَمَتْ وانتشرت بعد ذلك انتشارًا سريعًا، وصارت هذه الجماعة النامية ملجأً لكلّ مَن يهرب إليها طالبًا الخلاص. هؤلاء لأنّهم بَشَر صغار بالمقارنة بالله، يمكن تشبيههم بالطيور.
 عندما جاء المسيح لأجلّ سُكّان الأرض، فإنّ الناموس القديم تقدّم ونما إلى تفسيره الروحي، لأنّنا نكرز به (بأسفار العهد القديم) نحن الذين بلغنا إلى الاستنارة الروحيّة في المسيح، وهكذا كان لابد لرسالة الإنجيل أن تنتشر، إلى أن احتضنت العالم كلّه.
 
ليس من العسير أن نرى رسالة الكرازة بالإنجيل، مع كونها صغيرة في البداية، لكنّها قفزَت حالاً، إلى ازدياد عظيم، حيث أنّ الله قد سبق وأخبَر عن هذا بصوت إشعياء فقال: "لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ، كما تُغطِّي المياه البحر" (إش11: 9).
 
ونفس طريقة التفسير تنطبق حسنًا على ملكوت الله، عندما يُقارَن أيضًا بالخميرة. لأنّ الخميرة مع أنّها صغيرة في الحجم، لكنّها تُمسِك بالعجين، وتنتشر فيه كلّه، وتنقل إليه بسرعة كلّ خواصّها.
 
كلمة الله تعمل فينا بطريقة مشابهة، لأنّه حينما نقبلها في داخلنا، فهي تجعلنا مقدّسين وبلا لوم، وتغزو أذهاننا وقلبنا وتجعلنا روحيّين.. وكون أنّ الكلمة الإلهيّة تنسكب إلى عُمق ذهننا، هذا يُظهره إله الكلّ، حيث يقول بواسطة أحد الأنبياء القدّيسين: "ها أيّام تأتي يقول الربّ، واقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا.. هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل.. أجعل شرائعي في أذهانهم، وأكتبها على قلوبهم" (إر31: 30-33 سبعينيّة).
 
 لذلك نحن نَقبَل في أذهاننا وأفهامنا الخميرة العقليّة والإلهيّة، لكي بهذه الخميرة الثمينة والمقدّسة والنقيّة نوجَد روحيًّا غير مختَمَرين بالشرّ، إذ ليس فينا شيء من شرّ العالم، لأنّ القوّة المُحيية التي لتعليم الإنجيل إذ تَدخُل إلى الذهن، فهي تحوِّل النفس والجسد والروح إلى خواصّها الذاتيّة. ولذلك نكون أنقياء ومقدَّسين وشركاء المسيح.
 
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 98) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]