د. سامح فوزى
راحت رودينا أسامة، طالبة الصف الأول الثانوى، ضحية التنمر. لاحقتها زميلاتها بكلام جارح. لم يحتمل قلبها مشاعر الحزن الممزوجة بالإهانة، فغابت عن الحياة. وتستقطب عادة هذه النوعية من الأحداث اهتمامًا لحظيًا من الرأى العام، ومع كل حادثة إنسانية مفجعة يظهر خبراء وباحثون فى وسائل الإعلام يتحدثون عن الأسباب وطرق العلاج. ويكاد يتكرر نفس الحديث فى كل مرة، وهو حديث الحسرة على ما أصاب أخلاق الناس من تراجع، والينبغيات التى يتعين الأخذ بها، ونظل ننظر إلى الأحداث المتلاحقة نظرة استغراب وأسى، ونعيد طرح السؤال الذى كان عنوانا لكتاب الراحل الدكتور جلال أمين: ماذا حدث للمصريين؟

الإشكالية الأساسية- فى تقديري- تتمثل فى زيادة مظاهر التدين الشكلى فى المجتمع، بينما ينخفض مستوى الثقافة الإنسانية. ورغم أهمية تلازم الاثنين، فإن الهوة بينهما آخذة فى الاتساع. من هنا لا نستغرب تعدد مظاهر التفسخ الاجتماعى، والتراجع الأخلاقى، والاضطراب السلوكى، دون أن يثير ذلك أزمة ضمير، والسبب يعود إلى الغلالة الدينية الكثيفة التى تغطى المجتمع. بالتأكيد ليست المشكلة فى التدين، ولكن فى غياب الوعى الإنساني. هناك مصادر باتت واهنة يكتسب منها الفرد الوعى الإنسانى. أولها، وأهمها، الأسرة التى يتعين أن يتربى أبناؤها على الانفتاح واحترام الآخرين والسلوك بالقيم والمبادئ، اصبح الفضاء الالكترونى ينازع دورها بشدة بما يحمله من اضطراب وتشوش معرفى، وغاب عن الأسرة الحوار والنقاش وبناء الاتجاهات السليمة. ويأتي- ثانيا- دور المدرسة التى نراهن عليها فى إكساب الأطفال قيم العمل الجماعى، والمشاركة، وقبول الاختلاف، والتعاون من خلال التربية المدنية، تحولت إلى مؤسسات تعليم فقط، يغيب عنها التكوين الإنسانى، وحتى وظيفتها التعليمية ثارت مثار انتقاد منذ فترة طويلة. أما المورد الثالث للوعى الإنسانى فيتمثل فى العمل الأهلى، والتطوع فى الأعمال الخيرية، وبذل الوقت والجهد والمال فى خدمة المهمشين والفقراء وذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن. وليس خافيا تراجع معدلات مشاركة الاجيال الشابة فى المجال الأهلى، وهو ما يحول دون تمتعهم بالوعى الانسانى العميق بالحياة، وتحدياتها، وأهمية خدمة الإنسان. وتأتى الثقافة العامة، موردًا رابعًا- للوعى الإنسانى، والتى تتمثل فى الإصدارات التى تٌكسب الشباب والنشء النظرة الإنسانية للحياة، والخيال والمسحة الروحانية، وأيضا الفنون بشتى أنواعها، ولاسيما الموسيقى، وبالطبع نشكو دائما من انقطاع الصلة بين الثقافة وقطاعات عريضة من الشباب والنشء. وأخيرًا يأتى العامل الذى نفتقده فى كثير من الأحيان وهو الهدوء، الذى يتمثل فى غياب الضوضاء، والاستمتاع بالمساحات الخضراء، والتأمل فى الطبيعة بعيدًا عن التلوث. وفى هذا الخصوص كانت الأجيال السابقة أكثر حظًا من الجيل الحالى، رغم أن مستوى التقدم المادى فى الحياة كان بالتأكيد محدودا. وتدليلا على ذلك تروى هدى شعراوى فى مذكراتها كيف أن الحزن الشديد اعتراها عندما استيقظت فى اليوم التالى لزفافها على الوجيه الثرى ابن عمتها على شعراوى، وأطلت من شباك غرفتها فاكتشفت أنه تم إزالة أشجار عديدة حتى يُقام السرادق المبهج لحفل الزفاف. وتذكرت هذه المساحة الخضراء التى جرى الاعتداء عليها، وكيف كانت موضع عناية واهتمام فائق من جانب أسرتها قبل ذلك.

فى ضوء الحديث السابق، هل نستغرب لماذا يتجه بعض صغار السن إلى ممارسة التنمر تجاه غيرهم لاختلاف الوضع الاجتماعى، أو ملامح الوجه، أو لون البشرة، أو المعتقد الدينى، أو أى سبب آخر؟ هؤلاء لا يجدون تنشئة أسرية على التسامح، ولا تربية مدنية تعلمهم احترام زملائهم، والنظر إليهم على أنهم رفاق فى نشاط، وليسوا اغرابًا أو خصومًا، ولا تفتح أمامهم نوافذ مستدامة للمشاركة المجتمعية، ويفتقرون إلى التواصل مع الثقافة العامة، أو العيش فى بيئات هادئة ساكنة. بالطبع تبذل الدولة جهودا واسعة فى مجال التنمية، خاصة فى مبادرة حياة كريمة، التى تتعدد فيها التدخلات التنموية، وتطوير نوعية الحياة التى تعيشها المجتمعات الفقيرة، صحيًا وتعليميًا ورياضيا، وبيئيًا وثقافيًا، وهو ما يعطى مجالا لتغيير ثقافة الناس، وإكساب الأجيال الشابة ثقافة إنسانية، ولكن يظل الأمر رهنا بتوسيع فرص المشاركة، والعمل الثقافى المكثف، من جانب مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى، والتأكيد على أن المدارس الجديدة التى تنشأ حديثًا تقوم على مفاهيم التربية المدنية، مثلما نتأكد من إرساء البنية الأساسية فى هذه المجتمعات.
نقلا عن الاهرام