أحمد الخميسي 
أتذكر في عيد ميلاد محمد عبد الوهاب الذي يوافق 13 مارس أنني رأيت عبد الوهاب بالمصادفة في دار الأوبرا القديمة عام 1961عندما صحبني والدي إلى حفل الموسيقار العالمي آرام خاتشادوريان. كانت مقاعدنا في الصف الثاني أمام المنصة، وكنت أتلفت خلفي مبهورا، وفجأة رأيت محمد عبد الوهاب مقبلا في الممر برفق مثل أنغامه وإلى جواره زوجته، ثم جلس في الصف العاشر بعيدا عن المنصة! في الثالثة عشرة من عمري تصورت أن عبد الوهاب بخيل استرخص المقاعد الخلفية! فسألت والدي عن ذلك بدهشة، فقال لي مستنكرا:" لا يا ابني.. أي بخل؟! إنه أستاذ ويعلم من أي المقاعد يكون الصوت مسموعا أفضل ما يكون". لم أره بعد تلك المصادفة السعيدة. عبد الوهاب في تاريخ الموسيقا العربية مؤسس قالب الأغنية الحديثة التي ظهرت كشكل فني مع ثورة 19 في العشرينيات مواكبة لظهور الأشكال الفنية المصرية الأخرى: القصة القصيرة على يدي محمد تيمور، والرواية على يدي هيكل، والمسرح الغنائي على يدي سيد درويش. عبد الوهاب خالق قالب الأغنية الحديثة، على الرغم من أن آخرين سبقوه مثل القصبجي والسنباطي، لكنهم لم يستطيعوا الاستمرار في التجديد والتأسيس وظلوا في دائرة لحنية مغلقة، أما عبد الوهاب فقد فاق الجميع تأسيسا للقالب الموسيقى واستمرارا بالتجديد على مدى قرن تقريبا حتى سلم الراية لأبنائه كمال الطويل، ومحمد الموجي الذي قال إنه كان يفز على قدميه احتراما حين تذاع في الراديو أغنية لعبد الوهاب، فلا يسمعها إلا واقفا حتى تنتهي! 
 
في تلك السنة التي رأيت فيها عبد الوهاب تقدم والدي عبد الرحمن الخميسي بأوبريت مهر العروسة لعبد الوهاب لكي يلحنه، ووافق الموسيقار الكبير لكنه ظل يماطل ويسوف وطلب مهلة أربعة أشهر، ثم ثلاثة أخرى حتى انقضى عام ونصف ولم يلحن سوى ثلاث أغنيات! حينذاك عهد والدي بالأوبريت إلى بليغ حمدي، وكتب يوسف إدريس عن ذلك يقول إن:"عبد الوهاب قطع هذا الوعد وهو يعرف تمامًا أنه لن يوفيه وأنه ليس ملحن أوبريت، وأن حياته وثقافته الموسيقية تصب في قالب الغناء العاطفي المفرد الذي تزعمه"، وأضاف إدريس: " وقولنا إن عبد الوهاب ليس ملحن أوبريت ليس طعنا فيه، إلا إذا كان عدم الكتابة للمسرح طعنا في نجيب محفوظ"! نعم عبد الوهاب لم يكن قادرا على الابداع في مجال المسرح الغنائي، لكنه مؤسس" قالب الأغنية" الحديثة المصرية والعربية، ساقته إلى ذلك طبيعته الفنية الذاتية، مثلما ساقت يوسف إدريس طبيعته الذاتية إلى القصة القصيرة وليس الرواية. وعلاوة على الدور التأسيسي لعبد الوهاب فإنه كان المفكر الموسيقي الوحيد بين الموسيقيين المصريين جميعا، ويكفي لإدراك ذلك أن تقرأ كتاب سعد الدين وهبة الذي تضمن حوارات مع عبد الوهاب. 
 
وقد تردد خلال حياة الموسيقار العبقري وربما مازال اتهامه بسرقة الألحان، واستشهد أصحاب ذلك الاتهام السخيف بأن بعض أغنياته تحتوي مقاطع من موسيقا عالمية، وهذا صحيح، لدي عبد الوهاب بعض المقاطع، لكنها لا تمثل في البناء اللحني سوى نقطة للاستلهام تتبدل وتختلف في بناء فني آخر مكتمل لتصبح إبداعا مستقلا. في حوار لعبد الوهاب مع المذيعة ليلى رستم في الستينيات رد عبد الوهاب على سخافة ذلك الاتهام بقوله: " يتأثر الفنان بالموسيقا ويأخذ منها، بعد كده يطلعها لنا في ثمرة جديدة، مثل الابن، يأخذ من الأب والأم، لكنه في الواقع مخلوق جديد بحد ذاته". جرت أغاني عبد الوهاب في مختلف الأشكال : الطقطوقة، والموشح، والأغاني العاطفية، والحوارية، والوطنية، ومقطوعات موسيقية صرف، واغترف خلال ذلك من كل أنهار النغم:حواري المدن، والموسيقا السيمفونية العالمية، وإيقاعات الريف، وطبول الكباريهات. مازالت حية إلى الآن في أرواح وحياة الملايين فرحة الفن الذي قدمه موسيقار الاجيال.