سمير مرقص
«وداعًا القرن العشرين»
وردت عبارة «أسرى القرن العشرين» على لسان إحدى الشخصيات السياسية فى المسلسل الغاية فى الأهمية الذى يتحدث عن كواليس السياسة الأمريكية: House of Cards؛ وكان يُقصد بها عدد من رجال السياسة الذين لايزالون يقيّمون الأمور بمعايير القرن العشرين، بالرغم من أنه مرّ أكثر من 15 عاما على بداية الألفية الثالثة (حيث تدور أحداث المسلسل) التى أكد عقدها الأول أننا بصدد زمن مغاير كليا عن القرن المنصرم.
نعم، شهد القرن العشرون «أزمنة مشوقة» Interesting Times؛ حسب وصف الفيلسوف والمؤرخ «إريك هوبسباوم» (1917 ــ 2012)، حيث جرت فيه الكثير من التحولات الكبرى، كما تحققت العديد من الإنجازات العظمى.. إلا أنه أيضا، حسب «هوبسباوم»، عرف القرن العشرين «أوقاتًا منكسرة» Fractured Times.. وبين التشويق والانكسار، انتقلت البشرية إلى القرن الجديد، وفق مضامين وهياكل وعلاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية جديدة، ليست بالكلية هى التى اختبرها العالم فى القرن الفائت.. الأمر الذى جعل الكثير من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين يوجهون جُل جهدهم لفك شفرة/ شفرات المستقبل لاكتشاف معمار بُنى القرن الجديد.
«القرن الواحد والعشرون: بُنى جديدة ذات معمار مغاير»
لم يكن انتقال البشرية من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين مجرد انتقال رقمى، وإنما كان انتقالا نوعيا على جميع الأصعدة. فالبنى المتنوعة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والثقافية؛ التى شكلت معمار القرن العشرين قد طالها الكثير من الاختلالات والتصدعات.. ما أتاح أن تنطلق إرهاصات تشكل بنى جديدة اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية.
ذات معمار كلى الاختلاف عما سبقه. فالمتابعة الدقيقة لما حل من تطورات بالكوكب ومواطنيه فى العقدين الأولين والأعوام الثلاثة الأولى من العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين سوف يلحظ تطورات نوعية حضارية وثقافية، ومادية وفكرية، ومجتمعية ودولتية، واقتصادية وثقافية، ومعرفية وتكنولوجية تعكس تحولات متسارعة، تشكل سياقا مغايرا تماما عن السياق الذى ساد فى القرن الواحد والعشرين.
فى ضوء ما سبق، يعتبر بعض المفكرين والمؤرخين المعاصرين المعتبرين: القرن العشرين انتهى مبكرًا قبل عقد من نهايته، ذلك لأن الانهيار والتصدع قد حلا بالعالم - حسب هوبسباوم- حيث تبددت أحلام العصر الذهبى التى راودت شعوب العالم عقب الحرب العالمية الثانية (أحلام الاستقلال، والوطنية، والثورة الاجتماعية، والثورة الثقافية، وثورة الطلبة، والرفاه، والتنمية، والحضور الفاعل للعالم الثالث، والتقدم.... إلخ).
بسبب الإخفاق فى الوفاء بوعود العدالة والكرامة الإنسانية والحرية والرفاه والتقدم لمواطنى الكوكب والشراسة/ الشراهة التى أدارت بها الليبرالية الجديدة النظام الاقتصادى العالمى، وهى الشراسة/ الشراهة التى امتدت لتدمر البيئة دون رحمة فى إطار احتكار الموارد والثروات.. ومن ثم وصول القرن العشرين إلى أزمة تاريخية يصعب معها أن تستمر فيها الأمور على ما هى عليه. الخلاصة، تآكلت البنى النوعية المختلفة، وانهار ـ يكاد ـ معمارها إيذانا بحلول بُنى جديدة ذات معمار يواكب الألفية الثالثة.
«فى التحرر من أسر القرن العشرين»
وبعد، أسفر القرن العشرون عن إخفاق عظيم لما حمله وتضمنه من قيم وقواعد وعلاقات ومعمار لبُناه المختلفة.. لذا لا يمكن اعتبار الألفية الثالثة، أو القرن الواحد والعشرين بأى حال من الأحوال، امتدادًا وتطورًا طبيعيًا واستمرارًا للقرن العشرين.. بلغة أخرى، يمثل القرن الواحد والعشرون انقطاعا عن القرن الواحد والعشرين. ولا شك أن الطفرة المعرفية والقفزة التكنولوجية قد ساهمت إلى حد كبير فى بلورة سياق جديد تحتله قوى اقتصادية وجيلية وشعبية جديدة.
ربما لم تكتمل ملامحه بعد، ولكن إرهاصاته تتجلى بوضوح فى: تعرية جور النظام الاقتصادى العالمى وإخفاق طبعته النيوليبرالية، ومن ثم الرأسمالية العالمية/ العولمة المالية ومؤسساتها الدولية التى لم تنجح إلا فى تحقيق أعلى معدلات فقر ولا مساواة فى التاريخ الإنسانى، وكشف مدى عجز المنظومة الدولية عن إدارة وضبط وتنظيم الشؤون الدولية، وغلبة الصراع الإمبريالى بين قوى الهيمنة التاريخية التقليدية وقوى الهيمنة الجديدة، والذى ـ فيما أظن ـ سيكون على حساب الكثير من الدول.
تعكس الإرهاصات السابقة وغيرها أن معمارا جديدا قيد التشكل فى القرن الـ 21.. معمارا يشير إلى أن نظام وستفاليا فقدَ صلاحيته، كذلك مؤسساته الدولية واقتصاده العالمى.. كما أن تغير موازين القوى العالمية ودوافعها يعنى بالضرورة توافر مقاربة جديدة لكل هذه التحولات متحررة من أسر المقاربة التى دأبنا عليها فى القرن العشرين.
نقلا عن المصرى اليوم