إسحق إبراهيم
وسط مظاهر من الاحتفال والحفاوة والعرفان، أُسدل الستار على القصة الإنسانية الحزينة للطفل شنودة، التي استمرت نحو عام كامل، بحلولٍ توافقية. فقد صدر قرار النيابة العامة غير المتوقع، بتسليم الطفل شنودة مؤقتًا إلى السيدة آمال إبراهيم التي عثرت عليه، بصفتها عائلًا مؤتمنًا، على أن تُستكمل إجراءات كفالته وفقًا لنظام الأسر البديلة. أيضًا كَلفت جهاتُ التحقيق المجلسَ القومي للأمومة والطفولة، باتخاذ الإجراءات القانونية لإعادة تسمية الطفل بِاسم رباعي اعتباري مسيحي، لأب وأم اعتباريَّين مسيحيَّين، في ضوء ما انتهت إليه التحقيقات، التي تضمنت فتوى مفتي الجمهورية بتبعية الطفل لديانة الأشخاص الذين عثروا عليه.
تفتح قصة الطفل شنودة، والصخب الذي صاحبها، خصوصًا في فصولها الأخيرة، الباب للنقاش في عدد من الملفات الحرجة والمسكوت عنها، من أبرزها: طريقة تعامل مؤسسات الدولة مع حقوق الطفل المجهول النسب، والجدل حول ديانته، والبنْيَة القانونية المنحازة إلى الدين الرسمي للدولة، وحرمان المسيحيين التبني، وأدوار المؤسسات الدينية، وجهة تحديد مصلحة الطفل الفضلى.
لم تكن القضية التي نحن في صددها الحالة الأولى التي تفجر إشكالية التبني، ولن تكون الأخيرة إذا أُهْمِلَت الدروس المستفادة من هذه التجربة المريرة، والتي يأتي في مقدمتها أن إضفاء الطابع الإنساني على معاناة كل من السيدة آمال والطفل شنودة، وعلى ظهورهما إعلاميًّا، يوفر حالة واسعة من التضامن بين مختلف فئات المجتمع، سواء المسيحية أو المسلمة. وقد فشلت المحاولات الأخيرة في التأثير سلبًا، من خلال تغييرها الصورة الذهنية عن العائلة، وبيان تَفكُّكها وصراعاتها، وباعتبارها غير أمينة على الطفل.
ثاني الدروس المستفادة يتعلق برؤية المؤسسة الدينية ورأيها. وفي حالتنا هذه، قد يكون الأزهر الشريف ودار الإفتاء أكثر حكمة في معالجة بعض القضايا، مقارَنةً بأداء بعض الهيئات الحكومية والإدارية التي يُفترض فيها المدنية والحياد! جاءت فتوى مركز الأزهر العالمي للفتوى في شأن ديانة الطفل حاسمة، وأفادت أن هذه المسألة ذهب فيها العلماء إلى آراء متعددة، وأن "الذي يميل إليه الأزهر من بين هذه الآراء هو ما ذهب إليه فريق من السادة الحنفية، وهو أن الطفل اللقيط إذا وجد في كنيسة وكان الواجد غير مسلم فهو على دين من وجده". وهو ما أكدته فتوى مفتي الديار المصرية وفقًا للنيابة العامة.
تجاهلت مؤسسات الدولة منذ البداية السياق الذي وُجد فيه الطفل شنودة، وأقوال الأسرة التي تبنته واحتضنته، وخطاب بطريركية الأقباط الأرثوذكس للجهات القضائية، بأن الطفل وُجد داخل كنيسة السيدة العذراء بمدينة النور بالقاهرة، وأن مسؤولها القس أنطونيوس الذي توفاه الله هو من قام بتسليم الطفل إلى الأسرة. أسرعت هذه المؤسسات إلى تغيير اسم الطفل وديانته، من أجل خلق واقع جديد يصعب الرجوع عنه، مع أن الطفل لم يصل إلى سن التمييز، ولا يعرف الأديان أو الاختلافات بينها. كان يمكن لمؤسسات الدولة المعنية الانتظارُ بدون تغيير الاسم وديانة الطفل، أو إبقاؤه مع الأسرة إلى حين انتهاء التحقيقات، التي كان يمكن لها أن تُنجَز خلال يومين أو أسبوع بدلًا من الانتظار عامًا بكماله، حيث طرقت الأسرة خلالها كلَّ السبل الممكنة، ومن بينها القضاء.
من الدروس المهمة أيضًا، أن الوضع القانوني الغامض، والمنع من الحقوق، يخلقان مساحة للتحايل على الإجراءات الصحيحة، ويبرران ارتكاب الأخطاء. تنص المادة الثالثة من الدستور المصري صراحة على تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية في مسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين، وأيضًا تُجيز لائحةَ الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس لعام 1938 التي نظمت التبني، وحددت شروطه وإجراءاته. في حين، يمنع قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 التبني، وينص على أنه: "لا يجوز أن يُنسب الطفل إلى غير والديه، ويُحظر التبني".
يمكن أن تكون قضية شنودة نقطة انطلاق إلى إعادة مناقشة التبني بحسب الشريعة المسيحية. فإذا كانت الشريعة الإسلامية تحرمه، فهو مبدأ مسيحي أساسي، وجزء من منظومة أحوالهم الشخصية بمفهومها الواسع، ولا مبرر لعدم تطبيق التبني بين المسيحيين، إلا مجاملة الأصوات المحافظة ومغازلة المتشددين.
بطبيعة الحال، يحتاج ملف الأحوال الشخصية للمسيحيين في المجمل إلى تدخُّل مؤسسات الدولة. فالحاجة ملحة إلى نظرة مختلفة للتعامل مع الأحوال الشخصية على اعتبار أنها شأن ديني فقط، تحتكره المؤسسة الكنسية وحدها. الأحوال الشخصية ملف اجتماعي، تُعَدُّ الدولة مسؤولة عنه قبل الكنيسة. وعليه، فمن غير الطبيعي أن يُستبعد أصحاب المصلحة من عملية وضع مشروع القانون الجديد المزمع صدوره، والذي من الضروري تضمينه موضوع التبني، على أن تضع مؤسسات الدولة ما تراه من شروط تنظيمية، أولًا لسد الباب أمام أي حالات محتملة للإتْجار في البشر، وثانيًا لمتابعة الطفل المتبنى، والتحقق من رعايته.
قصة الطفل شنودة أكدت أهمية إعادة فهم دور وزارة التضامن الاجتماعي -الجهة المشرفة على دور الرعاية- في ضوء المصلحة الفضلى للطفل. الأطفال سواءٌ مجهولو النسب أو الأيتام أو من لديهم ظروف خاصة، ليسوا ممتلكات أو أشياء، يحدِّد مصيرَهم موظفون بدون أي مراقبة ومراجعة. ثم إن امتلاء دور الرعاية هو فشل وقلة حيلة، ونجاح الوزارة في أداء دورها مرتبط بتوفير أسر بديلة لهؤلاء الأطفال، وظروفٍ معيشية تسمح بتربيتهم بشكل طبيعي مثل أقرانهم في المجتمع. فالأصل هو مصلحة الطفل، والحفاظ على حقوقه.
نقلا عن التعدديه