القمص يوحنا نصيف
 جاء في إنجيل القدّيس لوقا "في ذلك اليوم، تقدّم بعض الفرّيسيّين قائلين له: اخرج واذهب من ههنا، لأنّ هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أُخرِج شياطين، واشفي اليوم وغدًا، وفي اليوم الثالث أكَمَّل.." (لو13: 31-35). ويُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذا الكلام، فيقول:
 
+ إنّ جماعة الفرّيسيّين كانوا أشرارًا، ومصمّمين ومتلهّفين على الخداع والغشّ، ويُصرُّون بأسنانهم على المسيح، وتشتعل قلوبهم بنيران الحسد حينما يرون الناس يُبدون إعجابهم به. مع أنّ واجبهم كان بالأولى، بصفتهم قادة للشعب.. هو أن يقودوهم إلى الاعتراف بمجد المسيح. لأنّ هذا كان هو الغرض مِن سَنّ الشريعة، وكرازة الأنبياء القدّيسين.
 
+ لم يكونوا يرغبون أن يُقيم في أورشليم، خوفًا من أن يُفيد الناس.. وقاوموه أيضًا بطُرُقٍ أخرى؛ أحيانًا بمعاملته بازدراء، والاستهزاء بقوّته المعجزيّة، بل والتجاسُر على سلطانه الإلهي قائلين أنّ كلّ ما يعمله هو بواسطة بعلزبول.. هاجموه بعنف شديد القسوة، ومارسوا باجتهادٍ كلّ هذه الحِيَل، لأنّهم يكرهونه كراهية مُطلَقَة.. فلماذا إذًا تقدّموا إليه قائلين: اخرج واذهب من هنا، لأنّ هيرودس يريد أن يقتلك؟ وما هو غرضهم من هذا الكلام؟!
 
+ كان يسوع منشغِلاً في تعليم الجموع.. أخبرهم عن الطريق الذي ينبغي للناس أن يسيروا فيه، ليصيروا ورثةً لملكوت السموات، إذ قال: "اجتهِدوا أن تدخلوا من الباب الضيِّق"، وأخبرهم أنّهم لو رفضوا أن يفعلوا هذا فإنّهم سيَرَوْن إبراهيم وإسحق ويعقوب وجمع الأنبياء في ملكوت الله، وهُم يُطرَحون خارجًا..
 
+ أثارت هذه الملاحظات غضب الفرّيسيّين، إذ رأوا الجموع تتوب بالفِعل، وتَقبَل الإيمان به بحماس، وأنّهم لم يعودوا يحتاجون سوى لقليل من التعليم أيضًا ليعرفوا مجده، وعظمة سِرّ تجسُّده الذي يستحقّ السجود.. نراهم قد تظاهروا بالمحبّة له، فتقدّموا إليه قائلين: اخرج واذهب من ههنا، لأنّ هيرودس يريد أن يقتلك.. فكيف أجاب المسيح عن هذه الأشياء؟
 
+ إنّه أجابهم برفقٍ، وبمعنى خفي، كما هي عادته، إذ قال: "امضوا وقولوا لهذا الثعلب".
 
+ اصغوا بانتباه إلى قوّة التعبير. لأنّه يبدو أنّ الكلمات المُستَخدَمة كانت موجَّهة لشخص هيرودس، لكنّها بالحريّ تُشير أيضًا إلى دهاء الفرّيسيّين.. هو يقارن الإنسان بثعلب، لأنّه من الثابت أنّه حيوان ماكر جدًّا، ولو كان لي أن أقول، فهو خبيث تمامًا كما كان الفرّيسيّون..
 
+ تخيّل الفرّيسيّون أنّ سلطان هيرودس سيرعبه.. رغم أنّه ربّ القوّات، الذي يولِّد فينا شجاعة روحيّة بكلماته.. ولا يضع اعتبارًا لعنف الناس.. وسيمضي إلى حيث أراد أن يمضي.. إلى أن يَقبَل نهايته بإرادته الخاصّة، بالموت على الصليب الثمين.. هو الذي بمحض إرادته ارتضى أن يتألّم، لأنّه متيقِّن جدًّا أنّه بموت جسده سيُلاشي الموت، ويعود ثانيةً إلى الحياة، فإنّه قام من الأموات، وقد أقام معه الطبيعة الإنسانيّة كلّها، وأعاد صياغتها من جديد، إلى حياة لا تفسَد.
 
+ الربّ ينسحب من أورشليم، ويترك أولئك الذين قالوا له اخرج واذهب من ههنا، لأنّهم غير مستحقّين لحضوره بينهم. وبعد ذلك إذ اجتاز اليهوديّة وخلّص كثيرين، وأجرى معجزاتٍ كثيرة يعجَز الكلام عن وصفها بدِقّة، عاد ثانيةً إلى أورشليم.. إنّهم غير مستحقين أن يروه إلاّ حينما يكون وقت آلامه قد حلّ..
 
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 100) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]