عاطف بشاي
منذ العبور العظيم في 6 أكتوبر (1973)- 10 رمضان- تتوالى السنوات، ونحتفل ووسائل الإعلام المختلفة بتلك الذكرى العطرة بالانتصار الباهر على العدو العتيد، ونكرر أسفنا الممرور لعدم تجسيد ذلك الحدث الكبير في فيلم سينمائى أو مسلسل درامى يوثق له دون جدوى، وكان السبب دائمًا لهذا القصور هو عجز الميزانيات وعدم قدرة شركات الإنتاج على التكلفة الباهظة.. أما أنا فقد كنت أتوق إلى كتابة المعالجة الدرامية والسيناريو والحوار لفيلم تدور أحداثه خلال تلك السنة العصيبة التي سبقت العبور، وهى تلك السنة التي تمثل المقدمة المنطقية أو نقطة الانطلاق- بلغة الدراما- والتى اتُّخذ في بدايتها قرار الحرب، وتمت فيها فترة الإعداد والتجهيز وتجديد المهام القتالية ووضع خطة الخداع الاستراتيجى التي كلف بها الرئيس الدكتور «عبدالقادر حاتم»، الذي ترأس فيها وزارة حرب لتكثيف كل الجهود لاسترداد الأرض.. إنها سنة التحول في تاريخ مصر المعاصر، والتى أثمرت عن محو عار الهزيمة بعبور المصريين خط بارليف والساتر الترابى وكسر أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يُقهر.. وكان الانتصار حصادًا لتخطيط علمى دقيق وحاذق واستعادة لكرامة شعب.
رأيت أن الفيلم الذي أطمح إلى كتابة السيناريو الخاص به يحتوى في هذه الحالة على شكل جديد ومثير دراميًّا، فهو يبدأ باتخاذ القرار، وينتهى بنجاح الضربة الجوية، فيصبح فيلمًا عن الحرب وليس فيلمًا حربيًّا بالمعنى الحرفى والتقليدى، وبذلك أكون أيضًا قد تخلصت من عقبة الإمكانات المادية الباهظة التي عطلت- كما أوضحت- ظهور فيلم يعالج ذلك الحدث العظيم.. والحقيقة أيضًا أن الأيام التي سبقت ساعة الصفر يلعب فيها الزمن الدرامى دورًا شيقًا يحبس الأنفاس، في تصاعُد أحداثه وعظمة تحدياته وتلاحق مفاجآته في إيقاع بالغ الإثارة.. تقدمت بالمعالجة الدرامية، مستعينًا بكتاب الخديعة لـ«صلاح قبضايا»، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المراجع، أهمها كتاب «أكتوبر» لـ«هيكل».. تقدمت بكل هذا إلى الأستاذ الراحل «ممدوح الليثى»، الذي كان يترأس جهاز السينما، فتحمس للأمر، وحازت المعالجة موافقة الجهات الرقابية وقيادات القوات المسلحة، ثم انتهيت من كتابة السيناريو بالكامل.. تبدأ الأحداث بالاجتماع التاريخى للرئيس السادات مع قيادات الجيش المختلفة للقوات المسلحة ووزير الحربية، والذى قرر فيه أننا قادرون بما لدينا من إمكانيات على خوض معركتنا الفاصلة والنصر فيها، وقرر السادات تعيين الفريق «أحمد إسماعيل» وزيرًا للحربية، وكلفه بالعمل مع رجاله الأكفاء لخوض المعركة خلال عام على الأكثر.. من خلال خطة محكمة.. تبدأ المشاهد في التوالى، حيث تشتمل على اجتماعات «أحمد إسماعيل» بـ«الجمسى»، الذي يرى ضرورة خروج القوات من الخنادق ليتحول تفكيرها من الدفاع إلى الهجوم، من خلال التدريبات الجادة واستغلال ما يتوافر لدى القوات من أسلحة، دون انتظار أسلحة جديدة، قد تأتى وقد لا تأتى، مع أهمية وضع خطة لخداع العدو وتحقيق المفاجأة بعبور قناة السويس، بأقل الخسائر الممكنة، والوصول إلى أقصى نسبة من التعاون مع الجبهة السورية لاستغلال الاتفاق السياسى القائم بالفعل في تحقيق النجاح العسكرى على الجبهة.. ويكلف الفريق أحمد إسماعيل اللواء الجمسى بإعداد دراسة دقيقة ومستفيضة لاختيار أنسب التوقيتات لبدء الهجوم على المسارين المصرى والسورى.. وبعد دراسة جميع المعطيات، يصل اللواء الجمسى إلى أنسب التوقيتات، وهو يوم السادس من أكتوبر 1973، يوم «عيد الغفران» في إسرائيل.. يُبدى السادات إعجابه بتلك الدراسة، ويوصى بالتنسيق مع الجانب السورى والتشاور معهم حول تلك النتائج.. وفى مشهد طريف نجد السرية الكاملة، وفى هيئة سياح، يصل القادة العسكريون السوريون إلى الإسكندرية للاجتماع بالقادة المصريين، ما يسفر عن تقديم «الأسد» تفويضًا كاملًا لـ«السادات»، باعتباره القائد الأعلى للقيادة الموحدة للدولتين لاتخاذ ما يراه مناسبًا من حيث بدء الهجوم على الجبهتين.. ويواصل المصريون خطتهم الخداعية على جميع الجبهات لترسيخ فكرة أن الجيش المصرى لن يحارب، وأن كل ما يقوم به من تحركات هو للاستهلاك الإعلامى وتهدئة الجبهة الداخلية الثائرة على الأوضاع الراهنة.. وتتوالى مشاهد التدريبات للوصول إلى الطريقة المثلى لاقتحام خط بارليف وعبور القناة، في عملية بطولية نادرة، حيث ينجح رجال الضفادع البشرية في إعداد خطة للتخلص من سلاح مهم يمتلكه الإسرائيليون.
يبدأ في مركز القيادة المصرية ضبط الساعات.. وتُرفع خرائط المناورة التدريبية لتوضع بدلًا منها خرائط العملية الهجومية (بدر)، حيث تقترب ساعة الصفر.. بينما تقطع الإذاعة برامجها لتذيع بيانًا وهميًّا يؤكد قيام قوات إسرائيل بمهاجمة موقع الزعفرانة المصرى، مما يُعد خرقًا لوقف إطلاق النار، وأن هذا سوف يؤدى بالقوات المصرية إلى الرد على التحرك الإسرائيلى المفاجئ.. وتصدر الأوامر للطائرات المصرية بالتحرك على ارتفاعات بالغة الانخفاض، وفى وقت واحد، لضرب الأهداف المعادية في تمام الساعة (س)، ساعة الصفر، وفى نفس الوقت الذي يطلق فيه حوالى (2050) مدفعًا نيرانها المكثفة على أهداف العدو في الجانب الشرقى ليفاجأ العدو بأن نيران الجحيم قد انفتحت عليه.
يتابع السادات وأحمد إسماعيل والقادة نتائج الضربة الجوية الأولى، في انتظار عودة الطائرات المصرية بعد تنفيذ الضربة بنجاح كبير.. ويرفرف العَلَم المصرى، لأول مرة، منذ سنوات، على شرق القناة.
شرع جهاز السينما في اتخاذ الخطوات التنفيذية، وبدأ ترشيح الممثلين والممثلات، بقيادة المخرج الراحل «على عبدالخالق»، وسط اهتمام إعلامى كبير، بعد طول غياب للسينما المصرية عن تجسيد هذا الحدث العظيم في فيلم درامى.. لكن ثورة يناير تندلع، وتتوقف الجهات الإنتاجية عن العمل، ومنها جهاز السينما، الذي تبنى المشروع.. وقد مات هذا الجهاز تمامًا، ولم يعد له وجود.
نقلا عن المصرى اليوم