د. سامح فوزى

نظم منتدى حوار الثقافات التابع للهيئة القبطية الانجيلية –منذ أيام- مؤتمرًا بعنوان التنوع وآليات التضامن المجتمعى، حضره عدد كبير من المثقفين والأكاديميين وأعضاء البرلمان والإعلاميين والشخصيات العامة، وشهد نقاشات حول قضايا عديدة تتصل بالتنوع، والمواطنة، وقبول الآخر، والعمل الأهلى، والأوضاع الاقتصادية، وغيرها. ذكرنى عنوان المؤتمر، وما دار فيه من أحاديث، بأطروحة عالم الاجتماع السياسى الشهير روبرت بوتنام، الذى فرق فيها بين نوعين من التضامن: أحدهما مُعتم، والآخر مُنير. وظاهر من وصف كليهما أن التفرقة بين نقيضين، الأول سلبى والآخر إيجابى.

التضامن المُعتم هو التقاء بعض الناس، وتكاتفهم حول أهداف ذاتية مغلقة ضيقة فى مواجهة الآخرين، مثل صراعات القبائل والجماعات العرقية فى بعض الدول على الاستئثار بالموارد، وأشكال التعصب الدينى والمذهبى، والجريمة المنظمة مثل الاتجار فى البشر والمخدرات والفساد المنظم والمافيا وغيرها، حيث تتسم جميعا بأن هناك تضامنا يجمع أنصارها حول أهداف مشتركة، بصرف النظر عن صحتها أو أخلاقيتها، ويعمل هؤلاء المتضامنون على تحقيقها. ونظرا لأنها أهداف تخصهم وحدهم، وتأتى على حساب غيرهم، فإنها تكون مٌعتمة، مٌظلمة، لا يٌرجى من ورائها أى صالح عام. أما التضامن المٌنير، فهو يجمع الناس على خير وأمل وغايات مشتركة، ويؤمن كل من يشارك فيه بأهمية الآخر المختلف المتنوع، الذى يُثرى بتنوعه السياق العام، دون افتئات من جانب جماعة أو فئة على أخرى.

نحن نتحدث إذن عن نقيضين: انغلاق فى مواجهة انفتاح،وأنانية ضد التعاون، وتراكم الكسب الذاتى مقابل توزيع المنافع المشتركة.

وبالطبع يكون لكلا النوعين من التضامن ثقافة تشمل التفكير والتبرير والقيم التى تحكم تصرفه. فلا يمكن أن تتحرك جماعة أو فئة دون إطار ثقافى بمعناه الواسع- أى أنماط التفكير والسلوك- تبرر لها ما تفعل، وتُعينها على فهم الذات بالطريقة التى تناسب رؤيتها لنفسها.

فى التضامن المٌعتم، هناك ثقافة مٌعتمة أيضا، فلا تجتمع العتمة والنور فى مكان واحد إلا غلب أحدهما الآخر، والنور طبعا له الغلبة بحكم طبيعته المٌنيرة، لذلك الثقافة المٌعتمة تسود التضامن المٌعتم، وتحكم غلقه، ولا تسمح بأية تدفقات منيرة إليه. من أبرز ملامح هذه الثقافة، الشعور المفرط بالذات، والاستعلاء على الآخرين ورميهم بكل نقيصة، والاحساس بالقوامة الدائمة على الغير، ورفض الاعتراف بالأخطاء، والنظرة الدونية لكل ما هو مختلف، والتعصب والكراهية ورفض الآخر، أو عدم الوعى بوجوده من الأساس. والأمثلة على ذلك كثيرة، تختلف فى درجة شدتها وقسوتها، من داعش وبوكو حرام اللذين دمرا الحضارة، وأعادا إليها ممارسات بالية من استرقاق النساء، والقتل على الهوية، واستعباد الآخرين، إلى ممارسات الحياة اليومية المعتادة التى تشهد ميل البعض إلى التشبث بآرائهم، والتسفيه من آراء غيرهم، وممارسة التعصب والكراهية، وتطويع القواعد والإجراءات – المُفترض فيها الموضوعية- لخدمة أغراضهم الشخصية.

فى التضامن المُنير، هناك ثقافة مضيئة، تكشف الإيجابيات والسلبيات، وتحث دومًا على مراجعة الذات، وتحكمها مجموعة من القيم الأساسية هى قبول الآخر، والاعتراف بالاختلاف، واعتبار التنوع ثراء، وممارسة يومية لبناء الجسور مع المختلفين، لا مجال فيها للكراهية أو الاستعلاء أو الشعور بالأفضلية المطلقة فى مواجهة الآخرين. وتتعدد الأمثلة الدالة على الثقافة المضيئة من التقاء المختلفين حول تحقيق أهداف مشتركة فى مجال البيئة والتنمية والخدمات الإنسانية، ومبادرات التكافل الاجتماعى، ومواجهة الفقر والتهميش، لاسيما أن الذين يتبنون هذه المبادرات ليسوا فقراء، ولا مهمشين، لكنهم يفعلون ذلك انطلاقًا من شعورهم بالمسئولية المجتمعية تجاه الإنسان المواطن، الذى لا يصح أن يقبع فى زوايا الجهل والمرض والنسيان، بينما يتمتع غيره بالمعرفة والرعاية والتمكين. بالتأكيد إن المجتمعات تٌبنى بالتضامن المٌنير، وما يلازمه من ثقافة مُضيئة، تجعل من الآخرين موضوعًا لاهتمامها، وجسرًا دائما ممتدًا معهم، وعملا مٌشتركا مٌستدامًا يجمعهم، خلافًا للتضامن المعتم، الذى ترافقه ثقافة على شاكلته، تمثل سببًا رئيسًا فى تخريب المجتمعات، وإثارة نعرات التعصب والكراهية، وتحقيق الصالح الخاص حتى لو كان على حساب المجتمع بأسره. وفى الوقت الذى يتضح فيه الفرق بين الثقافة المعتمة، التى تنصب على الذات، والثقافة المضيئة التى تعبر إلى الآخر، يظهر على المستوى الوطنى بجلاء التباين الجذرى بين المشروعات دون الدولة، مثل الإسلام السياسى، الذى يقوم على الاستعلاء والأفضلية المطلقة فى مواجهة الآخرين، وبين مشروع الدولة الوطنية الذى يستوعب جميع المكونات على أرضية المواطنة المتساوية.

نقلا عن الاهرام