عمار علي حسن
ليس أجمل من قول: «الله محبة». أمر أبعد من أن يصل إلى كل الناس. الحب هو النور الأبدى الأزلى الغامر. ليس بوسع أى أحد أن ينتصر على الظلام الذى يعشش فى نفسه. النور الذى يخرج من صميم القلب يصل إلى السماء، وحده الذى يُجلى لنا الغيب. وحده الذى لا يستطيع مَن يدب على الأرض أن يُجليه تمامًا، لهذا نظل جميعًا مُعلَّقين به. ستنتهى الحياة لو عرفنا كل ما يخفى عنّا. إن لم تنته ستصبح أكثر كآبة. مقبضة إلى درجة لا يمكن معها لأى منّا أن يعيش.

المحبة العالية لا تأتى كلها لمخلوق، وإلا توحّد مع خالقه. نحن فى حاجة إلى إشراقة واحدة من نورها الذى لا ينطفئ، إلى قطرة من محيطها العذب. ما أشرق، وما تقاطر يؤتاه الأولياء، مفرد لا جمع له. مَن هم دونهم، ينجذبون إلى النور من بعيد، كفراشات عليها ألّا تقترب حتى من مصباح واحد وإلا احترقت، فما بالنا بملايين الشموس التى تسطع فيها المعارف والمقامات والأحوال. أما مَن دون دونهم فيبحثون عن المحبة فيما يعرفون، ويا لها من محبة عظيمة.

هذا الذى يجلس عند كل مساء يناجيها هو واحد منهم. تجده يكتب: أعطاها الله قبسًا من محبته التى فاقت الحدود، فصرت لها مريدًا.

يواصل المريد القراءة من كتاب عجيب، والشيخ منصت: كيف لى أن أنسى ألقها وروعتها وجمالها الأخاذ، وكيف لا يريد الجمال امتثالًا وخضوعًا؟، وكيف لى أن أنسى كل شىء وهو سبحانه قد رسم معالمه؟. الطريق الذى سرت فيه حائرًا أتطلع إليها فى حرمان. وذلك الذى كانت فيه أتوه بما فى يديها، وهى تظن أن ما بين قلبى وقلبها لا شىء، وما بين عقلى وعقلها اتساعًا يربط السماء والأرض، وزمن لقائنا هو لحظة افتراقنا.

البهاء هى، وأنا المُوزَّع بين طلّتين منها، متباعدتين فى الزمن، لكنهما متوحدتان فى تاريخ فؤادى، تلك إشراقتها، وهذه لا يمكن أن يكون لها مغيب، فهى فى الروح لا ينقضى وجودها أبدًا.

روح كانت عطية من الله، وحرستنى أيام الجفاء. حزنت كفاقد كل أحد، وكل شىء. تناسيت، وغلبنى التذكر، دون إدراك منى أن الشوق هو الراية الوحيدة المرفوعة بيننا، مهما تقدم العمر، فالألق الذى برق فى عينى، حين لمحتها للمرة الأولى، أقوى من أن يمر تحت ظلال جناحيه فتى مثلى، هام بأجمل النساء يومًا.

شقى أنا لأنى ارتبطت بامرأة من عليين، هى فى نظرى قد صنعتها أساطير، وُجدت على الأرض، وتناقلها الناس أيامًا فقط، ثم اختفت، وكلما قدحوا أذهانهم كى يستعيدوها، لا تأتى أبدًا جسدًا كاملًا، إنما تجىء إليهم صورة حبيبتى، وهى واقفة تبتسم، وربما لا يكون سوى طيفها.

العمر ليس إلا مجرد حساب فى حال الرجاء، والرجاء يقوم بين اتصال وانفصال، وانفصال واتصال، وكيف لا، وكل سهم منها يرتد فى قلبى سنبلة ووردة وزهرة تفوح، يتعطر لها زمانها الذى لا يذهب.

لم يدخل سيفى فى غمدى، والجسد لم يرفع بعد راية بيضاء، فأشرعه ليقتلنى بحد المحبة المصقول. يقتل جسدى المتوثب، لتحيا روحى من جديد بمحبة أخرى، تولد لحظة اندماج قلبينا، كشرر يطير من انقداح صخرتين صلدتين، فتصير النار نورًا، يصعد إلى السماء السابعة.

يغلق المريد الكتاب، ويسأل الشيخ:

ـ كيف أنزع من قلبى حب الدنيا؟.

ابتسم الشيخ وأجاب:

ـ اجعل محبتها طريقًا إلى حب أكبر، فهى هدية الله إليك، فاحببها فيه دون أن تغلبك.

يا للوجد المستعر الذى يغرس جذوره فى باطن الأرض ويطلق فروعه فى السماء!. إنه يضرب صاحبه يمنة ويسرة كأنه قد أُلقى فى طوفان كاسح، أو رُمى إلى عاصفة غضوب.

كلٌّ وله حرمان إلا مَن كفته المحبة والرضا. وكلُّ مُولَه لا يدرك خطوة واحدة أبعد مما هو فيه إلا إذا رأى الذى أبعد من رغبة تتبدد، وشوق ينطفئ.

سمع المريد ما قاله شيخه، وضحك وقال:

ـ الرغبة تتجدد، والوله لا ينتهى، ولا أكذب إن قلت لك إن حرارة تسرى فى جسدى.

اقترب منه الشيخ، ومد يده، وراح يربت كتفه، وقال:

ـ لا يقطع المرء عن السماء إلا خيانة روحه.
نقلا عن المصرى اليوم