سمير مرقص
(1) «هلسنكى 1984»
فى يناير من عام 1984 سافرت أولى سفراتى خارج مصر، وكانت إلى فنلندا فى أقصى شمال أوروبا. كنت حديث التخرج آنذاك وأعمل فى مجال تخصصى المهنى، قبل أن أهجره لاحقًا إلى العمل فى مجال التنمية وبالتوازى البحث والكتابة. كان هدف الرحلة دراسة أحدث أجهزة التحليل الكيميائى آنذاك، أو ما يعرف بال Photometer، وأذكر أننى سافرت على الطيران الوطنية الفنلندية عبر فترة ترانزيت فى تركيا.

كانت الطائرة ممتلئة تقريبًا من القاهرة إلى إسطنبول، ولم يستكمل الرحلة إلى هلسنكى إلا خمسة ركاب فقط. ولا أنسى قط أن درجة الحرارة التى استقبلتنى بها هلسنكى كانت (- 20)، نعم كانت 20 تحت الصفر. كانت المعلومات المتواترة لدى ــ وأظن لدينا ــ بأن هلسنكى هى مدينة الأولمبياد والسلام التى شهدت توقيع اتفاقية هلسنكى للأمن والتعاون الأوروبى.

ولكن زيارتى المبكرة كشفت لى- إضافة للتقدم الزراعى والصناعى والتكنولوجى الكبير الذى بلغته فنلندا- أنها موقع استراتيجى هام، حيث تفصل بين النرويج والسويد من جهة وبين الاتحاد السوفيتى من الجهة الشرقية والجنوبية (لاحقًا روسيا من الشرق وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا جنوبا)، وتُطل على مساحة مائية ذات أهمية استراتيجية كبيرة.

وأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصادات الأوروبية الغربية، وتكن كراهية شديدة لروسيا. لذا، وبالرغم من الحيادية المعلنة، إلا أنها لم تتوقف عن تطوير جيشها فنيًا وتقنيًا وأن التجنيد ظل إجباريًا.

(2) «بروكسيل 2023»
فى الأسبوع الماضى، رُفع علم فنلندا فوق مقر حلف الأطلنطى (الناتو) ببروكسيل لتصبح فنلندا الدولة رقم 31 فى الحلف. ويأتى هذا الإعلان ليكلل رغبة تاريخية لدى فنلندا فى التخلص من أى هيمنة: مادية أو معنوية، من روسيا عليها فى المراحل القيصرية، فالسوفيتية، فالبوتينية على التوالى. فلقد كانت فلندا جزءًا من السويد وانتقلت تبعيتها كدوقية مستقلة تابعة للإمبراطورية الروسية عام 1809.

وشأنها شأن دول أوروبا، تعرضت فنلندا، نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلى اضطرابات اجتماعية ضخمة تجلت فى الإضرابات الكبيرة ذات الطابع الثورى، حسب «موريس كروزيه» فى موسوعته المعتبرة، والتى دفعت إلى الكثير من الحروب البينية داخل القارة الأوروبية، والتى أدت بالأخير إلى اشتعال الحرب العالمية الأولى فى 1914، وقبل نهايتها استطاعت فنلندا أن تستقل عن روسيا، وتحديدًا عام 1917.

فى هذا السياق، عاقب الحلفاء الغربيون ألمانيا باعتبارها المسؤولة الأولى عن الحرب، وفى نفس الوقت، تم تجاهل الاتحاد السوفيتى وحصاره «جيوسياسيا» من خلال مجموعة من الدول المحيطة به كما يلى: فنلندا من الغرب، وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا من الجنوب، فيما يمكن أن نطلق عليه «دول العزل الجيوسياسى».

وخلال الفترة من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى سنة 1940 وفى ضوء عدم ثقة الروس بالنازيين طلب الاتحاد السوفيتى من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا توطيد مركزه فى البلطيق، فاستجابت الدول الثلاث دون تردد.

ثم تقدم بمطالب مشابهة لفنلندا ولكنها رفضت. فشن الروس حربًا أجبرت فنلندا على التنازل عن بعض الأراضى التى تقع على تخومها الشرقية مع الاحتفاظ باستقلالها. فى الوقت الذى ضم فيه الاتحاد السوفيتى دول البلطيق الثلاث إستونيا وليتوانيا ولاتفيا كجمهوريات سوفيتية. وخلال فترة الحرب الباردة اعتمدت فنلندا سياسة الحياد ولم تنضم إلى الأمم المتحدة كدولة تامة الأهلية إلا فى عام 1955.

(3) «فنلندا رأس حربة الناتو»
خلال الفترة من 1955 إلى يومنا هذا، دأبت فنلندا على تطوير اقتصادها، حيث أجرت إصلاحًا زراعيًا فى 1922 طورت به القطاع الزراعى. وبحلول عقد الستينيات انخرطت مع العديد من الدول الأوروبية بتطوير القطاع الصناعى وفق خطط طويلة الأجل، وأخيرًا غزت القطاع الإلكترونى الذى مكنها من أن تكون رائدة فى إنتاج المحمول.

والقراءة المتأنية لاتفاقية هلسنكى سوف توضح كيف مثلت غطاء حاميًا لتقدم اقتصادى متنوع ولقوة عسكرية غاية فى التطور، وذلك من خلال ما نصت عليه من أدوار عسكرية تقوم بها لصالح أوروبا فى مواجهة روسيا السوفيتية فالبوتينية/ القومية.

ما يعنى أن انضمام فنلندا لحلف الناتو يقنن لدور دأبت على ممارسته تحت مظلة الحياد، ألا وهو التصدى للطموحات الروسية، خاصة أن دورها سيتغير رسميًا من العزل الجيوسياسى لروسيا إلى أن تكون رأس حربة الناتو فى مواجهتها.

خاصة أنها تشارك روسيا الحدود لمسافة 1300 كلم.. والسؤال ما الذى سيترتب على هذا التغير مستقبلًا؟؟؟.
نقلا عن المصرى اليوم