عاطف بشاي
في يقينى أن مسلسل «رسالة الإمام» الذي يعرض ضمن حشد المسلسلات الرمضانية هذا العام وكتب له السيناريو والحوار الموهوب «محمد هشام عبية» وأخرجه المبهر «الليث حجو» ولعب بطولته الممثل الرائع «خالد النبوى»، والذى يتناول السيرة الذاتية للإمام الفقيه الجليل «محمد بن إدريس الشافعى» صاحب المذهب الشافعى في الفقه الإسلامى.. وأتابع مشاهدته بشغف كبير وانبهار بالغ.. في يقينى أنه الأكثر تأثيرًا.. وأعمق غورًا وأبلغ تغلغلًا في عقول وقلوب وضمائر ونفوس النظارة على اختلاف ثقافاتهم واتجاهاتهم وتوجهاتهم، من عشرات بل مئات المقالات المدوية والندوات الصاخبة والمناظرات العاصفة والسجالات النارية التي تدحض الحجة بالحجة وتدفع الرأى بالرأى الآخر.. والفتوى الضارة بمنطق العقل والعلم.. والثابت والراسخ والمسلمات العاتية بالأرجح والمتطور، وتلك المعارك التي يضطلع بها المفكرون وأهل الفلسفة والمعرفة من طليعة التنويريين في ثقافتنا المعاصرة، أولئك الذين يجابهون تخلف الظلاميين التكفيريين أعداء الحضارة وأرباب التعصب المقيت، وفرض الوصاية والتطرف الدينى وإقصاء ونبذ الآخر.. ومروجى الفتاوى الرجعية المغلوطة والسامة والضارة والمخالفة لصحيح الدين ولدعائم الدولة المدنية.
استشهدت في مقالى السابق بالكثير من تعاليم ومآثر ومواقف مذهب الفقيه الجليل الذي يعتبر مرجعًا سديدًا في التسامح والحب والسماحة الدينية والاجتماعية التي تصل الحاضر بالمستقبل، في رؤية رحبة ومتسعة وعميقة لمؤسس أصول الفقه المضاد للعنف والتشدد المذهبى.. وتراجع إعمال العقل وتقديس توجه فقهى على حساب تعدد وتنوع منابر الرؤى الأخرى المخالفة.. واعتماد الإمام في استنباطاته وطرق استدلاله التي يقوم مذهبه فيها على الاجتهاد والدراسة الدقيقة المتفحصة في الأحكام الدينية وعلاقتها الإنسانية بالحياة والبشر، معتمدًا على فقه جديد يتجه إلى الكليات وشمول الرؤية بديلًا للجزئيات والاستناد إلى الأصول لا الفروع. وقد درس المعلم خلافات الفقهاء وناقشها في هدوء وروية وحصافة دون أن يدخل في خصومات أو منازعات أو اشتباكات عاصفة فقد كان دمث الخلق متواضعًا مع كثرة علمه وتنوعه.. أليس هو القاتل: «ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ.. وما في قلبى من علم إلا وددت أن يشمل الجميع.. ولا ينسب إلىّ».. وندلل على آداب المناظرة عنده بقوله «ناظر من تناظر في سكون.. حليمًا لا تلج ولا تكابر»، أي لا تكن عنيدًا في الخصومة.
●●
نجح المسلسل نجاحًا باهرًا باستخدام المخرج لأدواته الفنية المتعددة في التماهى بين «الصورة المرئية الشاعرية باستخدام تكوينات الكادر وزوايا التصوير وحركة الكاميرا والإضاءة الخلابة، مع شاعرية الإمام ورقة مشاعره الرومانسية الطابع والتى تتجسد في أشعاره الجميلة وحكمه المأثورة.. فتحولت الصحراء الجرداء والفيافى الخشنة والطبيعة الجافة وبدائية الأماكن والجو العام وجدبه وقسوة دروبه وطبيعته الخشنة إلى قصيدة شعر، يمثلها المسلسل مطبوعة بالسحر والجمال والخيال الخصب.
واستطاع «المسلسل» أن يعبر بالصورة عن عمق التعبير وفيض المشاعر وبراءة التجسيد وأناقة الإلهام من خلال مصداقية الأداء الذي جسده الفنان الرائع «خالد النبوى» الذي سلط إشعاعات مبهرة على أعماق الشخصية.. فأبرز نفسها الصافية وابتسامتها الخلابة وبراءتها وعفتها ونقائها الإنسانى.. فأقام ألفة وودًا وونسًا وانسجامًا ومعايشة وتوحدًا خلاقًا مع الشخصية المجسدة وسجاياها وشمائلها وعطر أخلاقها الحميدة.
فإذا كانت أشعار «الشافعى» تتعدد أغراضها وتتنوع مناسباتها فتكشف عن سريرته من ورع وتقوى، وسخاء وزهد وحياد وتسامح ومغفرة، وفصاحة في اللسان المفوه الغزير العلم البارع الحجة البليغ العبارة، والحكى بلغة جزلة من خلال معزوفات شعرية قصيرة تبث الفضيلة والحكمة بطريقة سلسة سهلة الحفظ، حتى جرى الكثير منها مجرى الأمثال والمأثورات الشعبية- فإنها تنعكس من خلال ملامح وتعبيرات ونظرات وإطراقات وهمسات وانفعالات الممثل.. وتظهر تلك الأغراض مثلًا في غرض حديث الجاهل: «ما ضر بحر الفرات يومًا/ إذا خاض بعض الكلاب فيه».. و»إذا غلب الشقاء على سفيه تنطع في مخالفة الفقيه».. وفى غرض المفارقة الساخرة يغرد الإمام: «الصمت عن جاهل أو أحمق شرفٌ/ وفيه أيضا لصون العرض إصلاحُ».. و«أما ترى الأسد تُخشَى وهى صامتة/ والكلب يُخسَى (يبعد ويطرد) لعمرى وهو نبّاح».. و«تموت الأسد في الغابات جوعًا/ ولحم الضأن تأكله الكلاب/ وعبدقد ينام على حرير/ وذو نسب مفارشه التراب».
نقلا عن المصرى اليوم