بقلم: أندرو اشعياء
كنت أنظر إلى ذلك الرجل العظيم بعد قرابة 1000 سنة من نياحته بالجسد، ناظرًا إليه مليًا مُتذكرًا تلك المدينة العظيمة الرامة، مقر إقامته وأيام طفولته، وكيف انطلق منها في رحلات كممثلًا عن الله، وعدت بذاكرتي لمدرسة الأنبياء التي أسسها، وتذكرتُ أيضًا ذلك المكان المهيب: الجلجال، الذي حل فيه بنو اسرائيل في الليلة الأولى بعد عبور نهر الأردن، وتذكرت الأثنى عشر حجرًا تذكار العبور . في ذلك المكان تم ختان بني اسرائيل، ومارسوا أول فصح لهم في أرض الموعد. في ذلك المكان أيضًا بعدما وصلت الأنباء إلى الرجل صموئيل ببطولة شاول في إنقاذ أهل يابيش جلعاد، قرر أن يدعو الجميع لتتويج شاول ملكًا بعدما نودي به في المصفاة.
وهناك في الجلجال، كانت أحداث مهيبة إذ ذًبَحَ ذبيحة السلامة وتنازل عن وظيفته كقاضٍ، وتوجَ شاول ملكًا. لم يحتج بطموحاته كقاضٍ، ولم يستقوي ويُثير تلاميذه لرفض فكرة الشعب، بل في شجاعة نادرة صلى إلى الرب، وفعل ما أشار عليه.
كانت مشاعر جياشة بالنبل والإمتنان بالله وقتها، إذ في شجاعه نادرة لقائد عظيم وقف أمام كل رجال اسرائيل كاشفًا رأسه، ومشيرًا إلى شعره الأبيض قائلًا: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ شِخْتُ وَشِبْتُ.. أَنَا قَدْ سِرْتُ أَمَامَكُمْ مُنْذُ صِبَايَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ» (سفر صموئيل الأول12: 2). لقد كانت حياته بلا لوم، طاهر اليد، نقي القلب، عاش واعيًا بمجد رسالته أمام الله والناس محتملًا عاملًا ما يفيدهم من تأسيس مدرسة للأنبياء.. حتى أنهم هتفوا «لَمْ تَظْلِمْنَا وَلاَ سَحَقْتَنَا وَلاَ أَخَذْتَ مِنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُمْ: شَاهِدٌ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ وَشَاهِدٌ مَسِيحُهُ الْيَوْمَ هذَا، أَنَّكُمْ لَمْ تَجِدُوا بِيَدِي شَيْئًا. فَقَالُوا: شَاهِدٌ.» (سفر صموئيل الأول12: 3، 4).
كان مِن المتوقع أنه في اعتراف مثل هذا أن يثني على الشعب قوته ومساندته مثلما يحدث في مجتمعاتنا، إلا أنه كرجل حر ينتقد أخطاء الآخرين باخلاص، وضحَ لهم طريقة تصرفاتهم السابقة ناقلًا أفكارهم إلى مصر عندما صرخوا إلى الله، ثم إلى أيام القضاة عندما حل بهم الضيق على يد سيسرا والفلسطينيين، ثم شعب مؤاب، وصرخوا فاستجاب الله لهم. ألم يقم الله يفتاح وباراق وجدعون. وهكذا بدأ يؤنب هذا الشعب على طريقة تفكيرهم إذ حالما تواجهوا مع ناحاش العموني، وبدلًا مِن أن يطلبوا الله طلبوا أن يملك عليهم ملك!
كان مِن الممكن أن يتمسك صموئيل بمكانته إلا أنه صلى وانحنى ليتمم ما قاله الله « فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: اسْمَعْ لِصَوْتِهِمْ وَمَلِّكْ عَلَيْهِمْ مَلِكًا» (سفر صموئيل الأول8: 22) وفوق كل هذا اختتم حديثه بخبرة روحية رائعة «لاَ يَتْرُكُ الرَّبُّ شَعْبَهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ الْعَظِيمِ.» (سفر صموئيل الأول12: 22) كانت هذه الخبرة ذا اثر عميق في نفوس ابائه من قبله ومن بعده إذ قالها موسى حين صنع الشعب العجل الذهبي «فَتَضَرَّعَ مُوسَى أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِهِ، وَقَالَ: «لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ الَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ، وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ؟ اِرْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ. اُذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ» (سفر الخروج32: 11- 13) وكأنه يقول «لاَ يَتْرُكُ الرَّبُّ شَعْبَهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ الْعَظِيمِ.».
أيضًا عندما هرب اسرائيل أمام رجال عاي، مزق يشوع ثيابه، وسقط على وجهه قائلًا: «آهِ يَا سَيِّدُ الرَّبُّ!.. أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدُ: مَاذَا أَقُولُ بَعْدَمَا حَوَّلَ إِسْرَائِيلُ قَفَاهُ أَمَامَ أَعْدَائِهِ؟ فَيَسْمَعُ الْكَنْعَانِيُّونَ وَجَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ وَيُحِيطُونَ بِنَا وَيَقْرِضُونَ اسْمَنَا مِنَ الأَرْضِ. وَمَاذَا تَصْنَعُ لاسْمِكَ الْعَظِيمِ؟» (سفر يشوع7: 7- 9). وفي التاريخ المتأخر لشعب الله ناقشهم اشعياء بصدد خطاياهم، وتحدث إليهم باسم الرب قائلًا: «مِنْ أَجْلِ اسْمِي أُبَطِّئُ غَضَبِي، وَمِنْ أَجْلِ فَخْرِي أُمْسِكُ عَنْكَ حَتَّى لاَ أَقْطَعَكَ. هأَنَذَا قَدْ نَقَّيْتُكَ وَلَيْسَ بِفِضَّةٍ. اخْتَرْتُكَ فِي كُورِ الْمَشَقَّةِ. مِنْ أَجْلِ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ نَفْسِي أَفْعَلُ. لأَنَّهُ كَيْفَ يُدَنَّسُ اسْمِي؟ وَكَرَامَتِي لاَ أُعْطِيهَا لآخَرَ.» (سفر اشعياء48: 9- 11). بولس أيضًا في نهاية حياته ترك خُلاصة خبرته الروحية لتلميذه تيموثاوس قائلًا: «وَمِنَ الْجَمِيعِ أَنْقَذَنِي الرَّبُّ.» (2تيمو3: 11) أي: الله لم يتركني.
الرب لا يمكن أن يترك شعبه وسط روائح الخطية الكريهة والظلم. لا يترك الإنسانَ لانه سرَّ أن يجعلنا له بنين. لا يترك شعبه وسط ضجيج المرض والالم. الله لا ينقض عهده ولا يبدِّل وعوده. قديمًا أرسل غربان وأرملة وملائكة لتخدم قديسيه، والله هو هو امسًا واليوم وإلى الأبد.
ودون إطالة، فيما اُفكر في هذا تجمهر الكثيرون، وإذ لصًا كان قد جاء الينا يبشرنا أن مُخلص العالم قادم الينا، وصَدَقَ إذ بعدها كانت ضجة شديدة تزعزت فيها اساسات الجحيم، هممت سريعًا لأسال الشيخ عما يكون هذا! فأجابني: «لاَ يَتْرُكُ الرَّبُّ شَعْبَهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ الْعَظِيمِ.» وسمعت وقتها كثير مِن المسبيين يرددوا «قدوس الله.. قدوس القوي.. لاَ يَتْرُكُ الرَّبُّ شَعْبَهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ الْعَظِيمِ.. المجد لقيامتك.. المجد لمُلكك، المجد لتدبيرك يا مُحب البشر».