سامح فوزي
لا أتحدث فقط عن الحوار السياسى، رغم أهميته، ولكنى أشير إلى حالة عامة تضيق فيها الأوعية القائمة عن استيعاب حوارات الناس، حيث يجد المتأمل لصفحات التواصل الاجتماعى «فائض كلام» عند الناس، يتحدثون ويتجادلون ويبدون رأيهم فيما يحدث حولهم من السياسة إلى الدين، مرورا بتقلبات الحياة المعيشية.
بالتأكيد من الضرورى أن يتحاور الناس، لكن الطريقة التى يتحاورون بها هى تنفيس أقرب منها إلى تواصل حقيقى، أو هى فضفضة، غالبا غاضبة، أكثر من حوار عقلانى بهدف الوصول إلى نتائج، يمكن البناء عليها. شىء مدهش، أن ينشغل الناس بالكلام والاشتباكات اللفظية، ولا يصلون إلى فهم واعٍ مشترك.
لم أرَ فى حالات كثيرة، أو حتى قليلة، تمكن الناس من بناء تصورات واعية من خلال النقاش عبر وسائل التواصل الالكترونى، والسبب مفهوم، أن الفضاء الالكترونى بحكم التعريف يضم الحابل والنابل، الكل يدلو بدلوه، وهناك من يسعى لتأكيد ذاته، ولفت الانتباه إليه بترويج أفكار متطرفة وغريبة تفجر النقاش، وتسيل لعاب المتفاعلين للرد عليها، وتجريس صاحبها، وبذلك يفقدون هدف الحديث ذاته.
لا أفهم لماذا يختار الناس صفحات تواصل الكترونية لمناقشة قضايا العقيدة، ويتراشقون حولها مثلما يختلفون على أى شىء، ويبلغ بهم الحديث توجيه انتقادات عنيفة وشتائم لبعضهم بعضا، وهنا أتساءل: أين الدين مما يفعلون؟ أظن أن كثيرا ممن يفعلون ذلك يسعون إلى إثبات وجودهم لا أكثر، وتحقيق مصالح خاصة بهم، والإعلان عن أنفسهم،
وتصفية حسابات مع الآخرين، دون أن تكون هناك غاية عامة يبتغون تحقيقها. وبالتأكيد أمر غريب، وغير موضوعى، أن يتشكل وعى الناس تجاه أشخاص، ومؤسسات، وأحداث ليس من خلال آليات حوار ونقاش شفافة، نستمع فيها لوجهات نظر متعددة، ولكن عبر نقاشات، وتعليقات، وشائعات وسائل التواصل الاجتماعى.
يسرى نفس الكلام على أحاديث السياسة والتعليق على الأحداث والمسلسلات ومباريات كرة القدم.. السبب فى رأيى أن الجهات المعنية ينبغى أن توفر مجالات للحوار المؤسسى الذى يسمح بالتعبير عن وجهات النظر المتعددة، وبلورة الأفكار، والوصول إلى نقاط محل اتفاق، ولا بأس أن تظل هناك قضايا مُختلف عليها تنتظر حوارا قادما. هكذا تدير المجتمعات المتقدمة ــ ثقافيا ــ شئونها، ولا تجعل من كل خلاف ساحة معركة يتراشق فيها الناس بسهام غضبهم.
أظن أن ضيق أوعية الحوار، على جميع المستويات، هو الذى سمح بحالة التشوش الشديد فى تناول مختلف الموضوعات على الفضاء الالكترونى، وهى ظاهرة باتت عامة، ولن تخفت أو تقل حدتها إلا بفتح منافذ الحوار، والتأكيد على حرية طرح القضايا، مما يجعل الأصوات العاقلة فى مختلف الملفات تظهر على السطح، ويتوارى أصحاب الآراء الانقسامية والتصادمية والمصلحية.
هذه مسئولية تضامنية من جانب مؤسسات عديدة، أهمها الإعلام، والمؤسسات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية، حتى يعتدل مزاج الناس، ويجدون إجابة لأسئلتهم، ويستمعون إلى آراء عاقلة، ولا يرمون أنفسهم فى أحضان المزايدين والمغالين فى كل القضايا.
يبدو أنه من الضرورى العودة بكثافة إلى الالتقاء المباشر «أوف لاين»، حيث يتلاقى الناس فى الحياة فى حوارات متصلة، بدلا من الركون فقط إلى الدردشة عبر وسائل «أونلاين»، ليس لها دور فى تغيير اجتماعى عقلانى.
نقلا عن الشروق