سمير مرقص
(1) «وداعا للنسيان وللماضى»
«إن عصر النسيان ولَّى».. بهذه الكلمات استهل المترجم «عبدالنور خراقى» تصديره للترجمة التى قام بها لكتاب «نهاية النسيان: التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعى» (The End of Forgetting: Growing Up With Social media)، الذ صدرت طبعته الإنجليزية عن جامعة هارفارد عام 2019 (صدرت الترجمة العربية فى فبراير 2023 فى سلسلة عالم المعرفة الكويتية).
يفجر الكتاب الكثير من القضايا التى تتعلق بحياة الإنسان اليومية فى العصر الرقمى، حيث تتم تنشئة المرء فى ظل وسائط التواصل الاجتماعى التى لا تتوقف عن التجدد التقنى. من ضمن هذه القضايا تلتقط المؤلفة أثر تقنيات التواصل الاجتماعى فى جعل تاريخ المرء حيًا غير قابل للاندثار أو الانمحاء أو التحوير أو الطمس أو الاختفاء أو الإخفاء.
تضع المؤلفة لقطتها أو القضية محور الكتاب فى مقدمة الكتاب كما يلى: «فى القرن العشرين إذا ما تعرض المرء للإحراج الشديد من جراء عرض صورة فوتوغرافية تعود إلى مرحلة الطفولة أو فترة المراهقة، فقد كان هناك حل بسيط: وهو استلال الصورة سرًا من إطارها أو من ألبوم صور العائلة وإتلافها. وفى ثوانٍ، يمكن محو حدث أو مرحلة محرجة على نحو خاص من حياة المرء على نحو فعال.
وفى العصر التناظرى (غير الرقمى)، ما لم يكن أقارب الفرد حريصين بما يكفى على الحفاظ على صورته الفوتوغرافية السالبة، يمكن للمرء التأكد، إلى حد ما، من أنه بمجرد تمزيق هذه الصورة أو حرقها، يختفى هذا الأثر المُحرج من الماضى.
وفى غياب الصورة، يمكن للمرء أيضًا افتراض أن أى ذكريات باقية من الحدث أو مرحلة من الحياة ستُمحى قريبًا من ذهن الفرد، وربما الأهم من ذلك محو أثرها من أذهان الآخرين».
(2) «ديمومة الماضى»
أما بعد مضى عقود من العيش فى عصر الوسائط الرقمية «أضحت قدرة المرء على ترك طفولته وسنوات من المراهقة خلفه، واحتمالية نسيان الآخرين طبيعة شخصه أيام كان صغير السن، معرضتين للخطر».
بلغة أخرى أصبحت سيرة حياة المرء، خاصة فى مرحلتى الطفولة والمراهقة، موثقة: صورة وصوتًا، عبر التقنيات الرقمية التواصلية الاجتماعية المتنوعة ودائمة التجدد. الأمر الذى يحول دون اختفاء مراحل العمر التكوينية الأولى من الذاكرة بما تحمل من ذكريات إيجابية أو سلبية. ففى الماضى كانت مراحل التنشئة الأولى تختفى مع مرور الزمن، وقد كانت هناك إمكانية لإنجاز عملية الإخفاء.
أما الآن فلقد أصبح من المستحيل القيام بعملية الإخفاء، ما يعنى بقاء ماضى طفولتنا ومراهقتنا حيًا أمام أعيننا، وهو ما وصفته المؤلفة بديمومة الطفولة Perpetual Childhood، وجعل مرحلة الطفولة لا تُنسى قط ولا نهاية لها Childhoods without End.. فى هذا الإطار، تلفت المؤلفة النظر إلى خطورة أن الذات الإنسانية فى مراحلها الأولى تكون على سجيتها فيما تتخذه من قرارات وما تقوم به من ممارسات، ومن ثم لا تأبه بتوثيقها بغض النظر عما يترتب على ذلك من نتائج.
ولاشك أن إمكانية الاستعادة اليسيرة لذاكرة هذه الأفعال سيكون مصدرًا للفخر فيما يتعلق بالإيجابى منها. ولكن السلبى منها سيكون سببًا لحصارهم نفسيًا ودافعًا لتجدد ذكريات مؤلمة غير مرغوب فى تذكرها، ما يصيبهم بآلام نفسية حادة. ويفاقم من تداعيات هذا التوثيق تلك الظروف السيئة التى تحيط بطفولة المرء والتى لا يكون له يد فيها، مثل ظروف الحروب أو التهجير أو الإزاحة أو ما شابه، والتى تعمل الذاكرة على إسقاطها بوعى.
(3) «إعاقة ابتكار الذات مجددًا»
وتؤكد المؤلفة، من جهة، أن من أهم ما يسببه عدم النسيان- أو ظاهرة نهاية النسيان- بسبب وسائط التواصل الاجتماعى، هو الحيلولة دون أن يعيد الناس ابتكار ذواتهم reinvent themselves، ومن جهة أخرى، تحذر المؤلفة من أن الامتناع Abstinence عن الانخراط فى عالم الرقمنة يؤثر حتمًا على تقدم المرء.
وتخلص المؤلفة إلى أن النسيان فى ذاته ليس ظاهرة سلبية بالكامل، بل هو ضرورة فى بعض الأحيان، فهو يحرر المرء ويساعده على المجازفة واستكشاف هويات جديدة واحتضان أفكار جديدة ويدعمه فى تجاوز عيوب النشأة.. ويبقى السؤال: ألا تعنى نهاية النسيان فى المقابل دوام الذاكرة؟.. فما الذى يعنيه ذلك؟.
نقلا عن المصرى اليوم